قصص متفرقة

قصص متفرقة 

حياة قائد - اليمن 
ما وراء سقوط بغداد

أمك تقول أنك لا تجيد تقديم نفسك ولا التعريف الدقيق بأفراد العائلة، معها حق، لهذا دربت نفسك مراراً لتجعلها تغير رأيها عنك! وها قد تحسنت كثيراً، ستقدم عائلتك الآن: أنت الأخ الأكبر، عظيم! نعم.. "عاطل باطل!"... هكذا تقول أمك، أبوك أيضاً عاطل عن العمل منذ حرب الخليج الثانية، أمك صارت عجوزاً بين حرب الخليج الثانية والثالثة، بالطبع لم ولن تعلن أية جهة مسئوليتها عن هذا، أخوك الصغير كل شيء عنده قابل للبيع، أختك الكبرى يطلقها زوجها تقريباً كل يوم ويصالحها كل ليلة، وإن في ذلك لآية لأولى النهى! أختك الصغرى تاجرة أسهم بخيلة، ولأنها آخر العنقود فلابد أن يكون لها اسم دلع خاص بها.. أنتم تدلعونها "بخبخ"! 
في الأمسيات الشتوية تستعيدون ذكريات شواء اللحم وأنتم تشوون البصل، في الصيف، في كل صيف، تناقشون الدور الحيوي لأجهزة التكييف في دول الخليج العربي، وبالتالي يجب أن يأتي صيف واحد على الأقل وقد تم إصلاح جهاز التكييف في بيتكم، ولأن شياطين أمك تنشط في الخريف، يتعاون أفراد الأسرة في الخريف على إقناع أمك بترك أختك الكبرى وشأنها، وعندما يأتي الربيع وتورق الأشجار وتغرد الأطيار وتلهو الأبقار.. لا تشعرون بكل هذا للأسف لأن بيتكم يطل على شارع رمادي وسماء رمادية.
تأزمت أوضاع البيت قليلاً مع اندلاع الحرب على العراق لأن أمك ثارت مطالبة بحقها المشروع في مشاهدة التلفاز رغم تعاطفها مع أخبار "الأشقاء" في العراق، في حين يسيطر والدك على التلفزيون بشكل استبدادي حتى لا يفوته شتم أي واحد من الأمريكيين والبريطانيين الذين يظهرون على التلفاز، وهذا أيضاً جعل أخاك الأصغر يسهر الليل ليتابع القنوات الفضائية بعد أن ينام أبوك، مما أدى إلى تدني أخلاقه بسبب مشاهدة نسبة أكبر من الأفلام والبرامج الهابطة!
بعد اندلاع الحرب حدث تطور تاريخي في مزاج أختك الكبرى، أصبحت أكثر إيجابية وقررت أن تُطَلِّق هي زوجها هذه المرة، قالت أنه لا يحس بمشاعرها ولا يفهمها ويوجد بينهما "هموم" لكنها ليست هموماً مشتركة، وفي نفس اليوم أعلنت القوات الأمريكية أنها تحرز تقدماً كبيراً، وقال أبوك أن هذا كذب وبهتان و... كذب الأمريكيون ولو صدقوا، في حين قالت أمك أن ما يهمها في الواقع هو سمعة العائلة وشرفها، وأن أختك كانت متمسكة بزوجها رغم مسلسل الإهانات السابقة، ولكنها تركته هذه المرة مما يثير الشك، ومعنى هذا-والكلام لأمك- أن أختك في رأسها موال! وهكذا طلبت أمك من أبيك أن يتدخل لو كان رجلاً ويضرب أختك حتى تعترف.
لكن أباك لحسن الحظ كان مشغولاً بابتكار شتائم أحلى وأقوى ليرميها في وجه الأمريكيين أثناء مشاهدته للأخبار، وفي تلك الآونة استطاع والدك أن يبتكر نظاماً للشتم يعتمد على المناصب، وأنت شديد الإعجاب بعبقرية والدك، أنت من أشد المعجبين به، لابد أن تطلب توقيعه ذات يوم!! فعندما تكون الشتيمة موجهة لمسئول أمريكي أو بريطاني كبير أو جندي ضخم الجثة وأقرع كان يقول: "يا حيوان!!" وأحياناً يحدد فصيلة الحيوان قائلاً: "يا كلب!"، أما عندما يخاطب جندياً يافعاً من الحجم الصغير القصير فقد كان يقول: "يا مهرج! يا قرد!"، وأحياناً عندما يكون سعيداً بأخبار عراقية مبشرة كان يشتم بأسلوب أكثر تسامحاً، فيشتم حتى "الكبار" بـ"ياقرد ويا مهرج".. إن أباك لإنسان لطيف حليم!!
وبصفتك عاطل عن العمل فقد عرضت عليك أمك مبلغاً رمزياً مقابل أن تثبت رجولتك
وتضرب أختك حتى تعترف، لكنك تجاهلت أمك، لأن نشرة الأخبار كانت تقول أن العرب سيخسرون، وهكذا كان لابد أن تجلس مع أبيك كل نشرة أخبار لتدعمه معنوياً بترديد نفس الشتائم التي ابتكرها، ولم تجد وقتاً لتشرح لأمك أنك مدين لأختك بمبلغ كبير من المال، وبالتالي لا يمكنك ضربها.
في نفس الفترة كنت مشغولاً بعرض آخر: هل تقبل أم لا تقبل الاضطلاع بمهمة إقناع أمك للاشتراك مع أختك "بخبخ" في شراء سهم عقار مقابل نسبة مغرية؟ المسألة مصيرية طبعاً لأن خلع أسنان أمك الذهبية كان ضرورياً لإكمال قيمة السهم، ولكن القيام بهذه المهمة يعني أن أمك ستقطع رقبتك أنت فيما لو خسرت "بخبخ"، وبعد صلوات وابتهالات طويلة طلبتُ فيها هداية الله: رفضت العرض رغم حاجتك الشديدة للمال لشراء بنطلون جينز عصري وملابس داخلية يابانية.
وقبل أن تسقط بغداد بيوم واحد كنتم تشاهدون الأخبار مع والدكم وأنتم تلتهمون العدس، وبالطبع كلما ظهر مسئول أمريكي ضخم أو أقرع كنتم تقولون: يا حيوان! ... ويا كلب..ويا ابن الكلب أيضاً! ولكنك لاحظت أن في صوت أخيك المرتفع جداً نبرة عواطف مفتعلة، فعرفت أنه يخفي شيئاً ما!
نعم.. معك حق ككل مرة! هاهو ذا يعترف لك بأنه سرق شريط الفيديو الذي سجل عليه والدكما إحدى حلقات النشرة الإخبارية الهامة ليسجل عليه مشاهد من البرنامج الروسي "عائلة سعيدة"، قال أنه كان مستعجلاً ولم يجد شريطاً غيره، وفي الفترة بين الموجز والتحليل الإخباري استطاع أخوك العبقري الصغير أن يعطيك فكرة شاملة عن المشروع وأنتما تلتهمان العدس: 
"سأكسب كثيراً يا حبيبي، هذه مشاهد نادرة جداً من البرنامج، لقد خصصوا حلقات الشهر الماضي لتصوير ولادات حية بكل التفاصيل، أنا سجلت عبارات للتعليق على كل فقرة مؤثرة، صوتي رائع يا حبيبي والله! وأضفتُ موسيقى وأصوات نساء يصرخن وأطفال يبكون، أنا مبدع يا حبيبي، صح؟ أعلنت عنه في الإنترنت، لدي مجموعة كبيرة من المندوبات المتعاونات، الطلب كبير، مهمتك يا حبيبي أن تنسخ الأشرطة، ليس لدينا وقت، هناك طلبية يجب توفيرها، أنا متعب وسأنام، ابدأ أنت العمل، لا تطلب مني راتباً الآن يا حبيبي، لكن عندما نزدهر ستشعر معي بالأمان الوظيفي!"
وكعادتك، شعرت بالحسد والغيرة لأن أخاك وسيم وذكي وسيصبح غنياً الآن، مما يعني أنه قد يصبح بإمكانه ذات يوم أن يتزوج... ولو بعد حين، لهذا قلت له: "دعني أفكر"، جيد..أنت عاطل عن العمل ولابد أن تفكر!
في اليوم التالي وقفتم أمام الشاشة تتابعون خبر سقوط بغداد، أختك الكبرى أصيبت بانهيار عصبي في حين هتفت "بخبخ" في نشوة:
"الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! سترتفع أسهم العقار يا ناس! الله! الله! لك الحمد يا من مقامك في السماء!".
وقبل أن تفهم ما معنى هذا أمسكت أمك بيدك وهي تقول في قلق ظاهر: "أرأيت؟ لقد أغمي عليها! أختك "عاشقة" ولا شك، وأنا متأكدة أن الرجل الذي تحبه موجود في بغداد، ألن تضربها الآن أم ماذا؟ ألن-....".
وقطعت أمك كلامها لأن أخاك ظهر فجأة إلى جانبكما، وأومأ إلى المشهد المعروض على التلفاز وهو يقضم الجرجير بنهم:
"- خسارة والله! مساكين!"  ثم جرك بذراعك ليبعدك عن الباقين قليلاً:
"- أنا ربحت يا حبيبي.. لا تنسى!
- ماذا؟ كيف؟ لا أفهم.
- الرهان حبيبي.. الرهان، نحن اتفقنا.. لو "فازت" أمريكا ستعطيني إيميل البنت التي كنت تدردش معها.
- آ.. لكني اكتشفت أنها ولد!
- لا مشكلة عندي ما دام يجيد التظاهر بأنه بنت!"
حاولت بعد ذلك أن تقنع أمك بتأجيل مسألة ضرب أختك إلى أن تفيق من الإغماء، والتفتَّ لتجد أباك صامتاً في وجوم، ثم استدار وجر ساقيه ليخرج من البيت، فتبعته أنت بالطبع لتخفف عنه قليلاً، وعندما خرجتما إلى الشارع مررتما برجال من الجيران يفسرون الواقعة، وكان أحدهم قد أصرّ على أن أمريكا انتصرت لأن الجنود الأمريكيين أسلموا وحسن إسلامهم فأثابهم الله فتحاً قريباً، فأوشك أبوك أن يجن وارتد عائداً إلى البيت، واستقبله أخوك بأنواع التهريج والمداعبات الثقيلة ليضحك، وأخيراً ضحك أبوك بعينين دامعتين.
ولأن أمك قلقت عليه فقد أرغمته على مشاهدة حلقة للشيف رمزي وفيلم ليلة القبض على فاطمة، بل وسجلتهما له في المساء على شريط فيديو لترغمه على مشاهدتهما بشكل متواصل لأنها على يقين من أن فيهما مفعولاً مهدئاً للأعصاب.
صباح اليوم التالي اكتشفتم أن زوج أختك نقل إلى المستشفى متأثراً بمشهد سقوط بغداد، فانتعشت روح أختك ونشطت فجأة وقررت العودة لزوجها، قالت أن حزنه هذا علامة على وجود "هموم" مشتركة بينهما، وفي نفس اليوم أيضاً أغمي على أختك "بخبخ" عندما فوجئت بأن تاجر الأسهم الذي تعاملت معه نصاب كبير جداً وليس خبير أسهم فقط، حتى أخاك الصغير وجدته في حالة سيئة لدرجة أنك شعرت لأول مرة بعاطفة الشفقة الأخوية نحوه، ربما بسبب تأنيب الضمير.
طبعاً لم تكن بحاجة لسؤاله عن السبب لأنك عرفت أنه نسي شريط النسخة الأصلية لبرنامجه الروسي- والتي تعب في إخراجها- بجانب التلفاز، وأنت رأيته بيد أمك فتجاهلت ذلك عمداً حتى لا تزدهر تجارة أخيك ولا يمكنه الزواج قبلك أيها الحسود! وهكذا سجلت أمك على الشريط مهدئات الأعصاب التي خصصتها لأبيك.
ورغم شعور أمك بفرحة خفية لأنها لم تبع أسنانها في سبيل المساهمة مع "بخبخ"، إلا أنها كانت مكتئبة وغاضبة جداً لأن أختك عادت لزوجها دون أن يضربها أحد، ولهذا فقد ذهبت إلى بيت الجيران وتركت أباك المسكين وحده عقاباً له، في حين بقي هو أمام التلفاز يتابع الأخبار دون أن يشرب الشاي.
** * **
ها قد جلست أنت إلى جانب أبيك مثل زمان، تنظران إلى التلفاز دون أن تتكلما، كان مسئول بريطاني كبير يبتسم أمامكما على الشاشة ويمطط شفتيه بكل الاتجاهات، أحسست برغبة جامحة في أن تشتمه بصوت مرتفع لكنك سكت، لا إرادياً انتظرت أن يشتمه أبوك لتشاركه أنت في ذلك، ولكن أباك بقي صامتاً على وجهه مسحة من البلادة الحزينة، انتظرتَ طويلاً. . . ولم يقل أبوكَ شيئاً. . . لم يقل حتى "يا قرد" . . . . أو "يا مهرج"

 محمود يوسف
النن أسمر.. 

كان دخان السيجارة يخرج من منخاره كشكمان السيارة.. يتصاعد في الهواء.. يملأ فراغات أرجاء الغرفة بشبورة ضبابية.
صحصح معي قارئي العزيز إن ما سوف أرويه الآن لك ربما لم يحدث حتى في الأحلام.. كما أنه أيضًا لا يصلح أن يكون حدوتة لأبلة فضيلة؛ لذا وجب عليك أن تفهم وحدك ما أريد قوله بين السطور.
حين دفع والده الباب عليه فجأة.. وعيناه يا ساتر يطق منهما الشرار، بدت علي ملامح الصبي الرهبة .. أيقن أن نهايته أوشكت.. تمنى أن تنشق الأرض عنه وتبلعه انكمش على كرسيه المتحرك وقد تصلبت عيناه على تلك الملامح الحادة التى يألفها..
الولد بالتأكيد لن يخاف الموت.. وبالطبع لن يصل الأمر لهذا الحد وحتى إن حدث في لحظة طيش.. برضه الولد لن يخافه.. على العكس تمامًا فهو من يُلح في طلبه كل مساء بمجرد أن يضّجع على سريره بعد رحلة شاقة من كرسيه المتحرك سنده فيها ساعداه الهزيلان.. يطلبه لأنه على يقين بأن الراحة الأبدية مما هو فيه تكمن به.. لكن ما يخافه حقًا هو أن يراه والده على خطأ.. حتى لو كان هذا الخطأ بسيط تافه.. لذا كان كل ما وجب عليه فعله هو أن يسخر كل طاقته لتحقيق هذه الأمنية..
كان وقع أقدام الأب زلزال يهز كيان الولد.. كلما اقترب منه كلما تضاءل وانكمش أكثر على كرسيه حتي شعر أنه أصبح في حجم بعوضة. كان هم الولد هو رد فعل والده، ما جعل عقله يخلق سيناريوهات ليس لها أول من آخر.. أسيسكعه قلمًا من شدته سوف تُعلم أصابع كفه على وجهه كوحمة في جسد طفل صغير تطالعه في مرآة المستقبل؟ أم سيضمه إلى حضنه الدافئ الحنون الذي فات عهد لم ينعم به الولد منذ أن بدأ في الاعتماد على ساعديه بدلًا عن قدمه في تحركاته.. يضمه الى صدره وهو يسأله بنبرة لوم عن الدافع وراء عملته هذه.
كانت الأم عند باب الغرفة تراقب خطا الأب في وجل.. إلى أن وقف أمام الولد.. هنا فقط بدأ قلبها في الخفقان.. هي تعرف جيدًا أنه بعد أن يلقن الولد درسًا لن ينساه مدى العمر، هينيلها بستين نيلة وسيصبغ أيامها بسواد ناقع لعدم إحكامها تربيته.. ولكن كل هذا لا يهم حتى لو زقلها من الشباك برضه مش مهم. فقد كان همها الأول الولد.. صحيح الولد يستاهل قطم رقبته.. لكن يا كبد أمه هو مش ناقص.. يكفي ما به. ومع ذلك وبرغم ما يدور بداخلها لم تقدم على فعل شيء.. لم تتفوه بكلمة تلطف بها قلب الأب قبل أن يفلت منه لجام غضبه.. كلمة تحننه بها علي ولده.. فقد كانت في حالة لا ريب فيها.. صوتها انحاش.. قدماها تسمرت عند عتبة الباب.. يدها التصقت بصدرها الذي لم يكف عن العلو والهبوط من الخوف الذي سكن جوارحها.. كانت عينها تائهة بين الولد وأبيه.. وعقلها مشغول بتفسير ما حدث.
أكابوس هذا..?
بالقطع لا.. فما رأته بأم عينيها اللتين سيأكلهما الدود كان واقعًا، كل الظواهر المحيطة بها تؤكد ذلك.. واقع أغبر كاد يفقدها عقلها.. فما رأته من خلف الباب الموارب.. أبدًا لم يخطر لها على بال. هي التي ظنت أن الولد يقتل نفسه في المذاكرة.. فطاوعت قلبها بأن تصنع له كوبًا من اللبن الدافئ يجلى به صدره من ليل طوبه وبرده القارس.. يفعل هذا..?
كان الولد جالسًا على كرسيه المتحرك أمام النافذة يطالع الغيوم الملبدة في السماء.. وفي إحدى يديه قلم مثبت جيدًا بين السبابة والوسطى ومن حين الى آخر يضعه على شفتيه ثم يخرجه وهو ينفث رذاذ البخار دون خِشَى ولا حياء.. حدث كثيرًا ما فعلناه ونحن صغار حين كنا نذهب إلى المدرسة في فصل الشتاء بَكير.. واخد بالك سى القارئ.. حدث تافه.. أتفه حتى من أن أعكف على سرده.. فمن الممكن تداركه بسلاسة ويسر.. لكنه وقع على قلب الأم كالقشة التي قصمت ظهر البعير.. شعرت أنها هوت من سفح جبل شاهق الارتفاع على جذور رقبتها.
الولد بالطبع لم يدرك ما في نفس أمه.. ربما لو أقدمت على فعل تلفت به انتباهه لتدارك الموقف قبل أن يأتي والده بزعابيبه. لكنها اكتفت بالوقوف خلف الباب تراقب ما يفعله دون حراك.. فقد انتفخ صدرها مما رأته حتى أصبح كبالون احتوى كل هواجسها.. إلى أن بدا لها هذا الحدث ذا هالة عظيمة.. والولد يظن أن لا تدركه الأبصار.. لذا لم يتخيل قط مدى وقع الحدث عليها.
كانت الأم خلف الباب الموارب تضرب أخماسًا في أسداس.. وكأن عقلها مازال حديث الولاده لم تبلغ الرشد بعد لكي تعرف ما وجب عليها فعله.. أتدفع الباب وتهشم رأسه بالمداس.. كانت خائفة.. خائفة.. وخوفها بالتأكيد ليس من غضب والده فقط.. ليفعل ما يفعل.. أعلى ما في خيله يركبه فمهما حدث القطة لن تأكل صغارها.. وعنها فقد اعتادت علي طبعه، جتتها نحست من كثرة شجاره معها سواء أكان بسبب أم بدون.. لكن كان خوفها من أن يصبح الولد.. الولد الذي ظنت أن الله عوض صبرها به خيرًا.. يصبح حاشى الله في غفلة منها سبرسجي كأبيه.. يتحكم الدخان في مزاجه وانفعالاته.
” مش كفايه مسطول واحد يا ربي ” هكذا قالت بحسرة.
بالتأكيد لم تكن فعلة الولد هذه خطوة نحو تجربة شيء ما كما ظنت.. ولا عتبة لما هو أخطر من ذلك بكثير.. الولد لن يمشي على خطا والده.. فما به يكفيه.. ليس في حاجة إلى خطاه.. كل ما أراده فقط هو أن يصطفي نفسه إلى مرحلة كثيرًا ما وصفته أمه بها.. مرحلة كل ما يعرفه عنها جلسات الأنس على المقاهي وسط أصدقاء أحاديثهم لن تنقطع أبدًا وهم ينفثون الدخان من أنوفهم وأفواههم.. يتطاير في الهواء يتصاعد الي السماء حتى يصيبها بالغيوم.. أراد أن يخرج من طور الشباب الذي حرمه الله فيه من نعمه.. يهرب من محبسه عبر النافذة.. يسافر بخياله ولو لفترة وجيزة.. يحدد فيها شاربه الأخضر بقلمه.. وهو يمرح بعرجته في هذا العالم الذكوري.. عالم ينعم فيه بالصحبة.. صحبة يزيح بها إحساسه باليتم الذي أصابه في قدميه.. يحكي في رحابها إنْ شاء.. يتقيأ ما في جوفه من مرارة.. يفضفض دون أن تلدغه نبرة سخرية.
وآه لو يعلم أني قد أحرقت علبتي سجائر في سرد هذه القصة… لكن خلينا في موضعنا.
وإلى هنا الأمر هين رغم اختلاف منظوره من كلا الطرفين: الأم والابن حتى بعدما دفع والده الباب عليه فجأة.. برضه هين.. ولكن ما زاد الطين بله.. ماجعل الأمر يبدو أكثر تعقيدًا.. هو رد فعل والده المباغت.. فكل ما حدث كوم.. وما فعله كوم آخر..
كان المشهد نصب عين الأم مشهدًا فنتازيًا تجلى الأب في تجسيده حتى عجز عقلها عن ترجمة ما تراه لفعل أو لقول.. فقط اكتفت بالوقوف عند عتبه الباب صماء بكماء فاغرة فاها.
هي لا تعرف متى جاء، ولا كيف مر من تحت إبطها بجسده الفارع هذا دون أن تشعر به.. خوفها حال دون الانتباه لسماع صوت مفتاحه وهو يعبث به في كالون الباب.. وكسرعة البرق هبط عليهم كالقضا المستعجل بعينين محمرتين ووجه مسفوط.. متقمص دوره كأب وكأنه على موعد مع الأوسكار.
للعلم هو ليس ساذجًا لهذه الدرجة.. وإن كان لا أحد يعرف مغزى تصرفه هذا. ولا حتى أنا الكاتب.. لكنه عن جد ليس بهذه السذاجة التي دفعته لعمل لا يعرف مداه.. ربما أراد أن يتبع نظرية تربوية ما عن نفسي أجهلها.. فحين أتاني وحي هذه القصة لم يُقرئني إياها. لذا جسلت كالأم أراقب الحدث من كثب.. من خلال الحكي.
كان الأب على بعد خطوات من الولد.. واقفا انتباه كتمثال الحرية ضامًا إحدى يديه إلى خصره والأخرى مرفوعة في الهواء ممسكة بسيجارة مشتعلة.. يمسح بعينيه المحمرة جسد الولد.. والولد من تحتهما يتضاءل ويتضاءل إلى أن ثبتت تلكما العينين على قدم الولد.. وقد بدا على شفتي الأب ابتسامة ساخرة.. هنا فقط تبدلت ملامح الصبي الكيوت بنظرة جامدة خالية من أي مشاعر.. شب على قدميه بعدما اتكأ بيديه علي مرفق كرسيه المتحرك.. حبا بضع خطوات تجاه والده.. خطف السيجارة من يديه وشرع في شربها وسط قهقهات ذكورية هستيرية مختلطة بعويل أنثوي مرير.


إسماعيل غزالى
اليابانى

هذه أول محاولة لي في كتابة قصة قصيرة، أنا الملقب ب "الياباني".
كل ما أعلمه عن هذه القصة، هو بدايتها، وبدايتها كما هي مرسومة في ذهني هي على الشكل التالي:
فتاة تشرف على الثلاثين، بفستان أحمر، تظهر فجأة على الرصيف، متقدمة نحو صندوق البريد الأصفر المعلق إلى خرسانة قريبا من محل مكتوب على يافطته الصلبة: "مكتبة الرسالة".
ذلك هو رأس الخيط، والبقية لا أعلمها.
بإيجاز: لا صورة في خلاء ذهني عن التفاصيل الأخرى.
ربما تكون البداية ناجحة، لإنجاز قصة فعلا.
لنحاول، لن نخسر شيئا.
ليس محض تخييل أن أخبركم بأن الفتاة قادمة من الجهة الغربية (ضاحية المدينة) باتجاه الشرق (مركز المدينة). وليس محض تخمين أن أقر لكم بنيتها في التقدم نحو صندوق البريد. ولأنها تقصد البريد عمليا، فبالتأكيد هي تحمل رسالة. جيد. إنها تحمل رسالة. وحتما ستلقي بها في الصندوق الأصفر. تحصيل حاصل. لكن، أي رسالة هذه؟ لمن هي؟ وما هو محتواها؟ وأي عنوان محظوظ هذا الذي تستهدفه؟
هذه كانت تساؤلات الرجل الطويل الواقف في شرفة شقته، بالجهة المقابلة للرصيف، أي في الضفة الأخرى للشارع. وكانت هي نفسها تساؤلات الرجل القصير بالمقهى المحاذي، ونفس تساؤلات الرجل الأصلع الذي يرصد الشارع من نافذة عيادته المحاذية، ونفس تساؤلات أكثر من شخص، يجلسون بمسرح تلك الهنيهة في زوايا خفية وعاتمة.
من المكتبة يخرج شاب بنظارة سميكة، يحمل دزينة كتب، يقف اعتباطا قريبا من الصندوق الأصفر ليستوي في وضعيته المختلة، فتسترعي انتباهه الفتاة ذات الفستان الأحمر التي تحاول الإلقاء بالرسالة في الصندوق ويتمنع عليها ذلك. ربما لأن الصندوق مملوء عن آخره. وربما لأن فم الصندوق به شيء يعسر من اختراق ثلمته. تلك كانت فرصة حالمة ليدنو منها الشاب صاحب النظارة السميكة، ويحاول أن يسدي لها عونا. يتذكر أنه في ورطة. فهو يحمل دزينة كتب، ولا يتيح له وضعه المختل أن يساعد الفتاة ذات الفستان الأحمر. فيطلب مهلة، يقفل راجعا إلى المكتبة، ويحط رزمة الكتب هناك، ثم يعاود الخروج مسرعا ليقدم تلك المساعدة الجليلة.
يمسك بالرسالة أولا، وقبل أن يمسك بالرسالة يحدق في وجهها البديع. يحدق في عينيها الزرقاوين. يحدق في ابتسامتها المثيرة. ثم يشعر بدفء ملمس الرسالة، وعندما يثبت رأسها في فوهة الصندوق، تستعصي على الولوج، تنثني ويكاد يقصمها، فيكف عن دفعها، ويحاول فحص الفوهة. الفوهة تبدو فارغة، ولا شيء عالق بها. يبتسم للفتاة ويقول:
- ربما الصندوق ممتلئ عن آخره.
يعاود الكرة، ولا جدوى.
- لو سمحت؟
جاءه الصوت من الوراء. التفت ورأى رجلا طويلا يقول له:
- دعني أجرب.
كان هو الرجل الطويل نفسه الذي بدا واقفا عند الشرفة بالشارع المقابل.
لم يبتسم صاحب النظارة، لأن الرجل المتطفل أزعجه باقتحامه المشهد. المشهد الذي كان مقتصرا عليه وعلى الفتاة فقط، ما عاد كذلك.
التفت الرجل الطويل الدخيل إلى الفتاة، وحدق في وجهها البديع. حدق في عينيها الزرقاوين. حدق في ابتسامتها المثيرة. وتسلم الرسالة واستشعر ملمس دفئها، وحاول إدخالها في فوهة الصندوق، وامتنع عليه ذلك، حيث انثنت وكادت تنطوي، فأمسك عن دفعها وقال:
- ربما الصندوق ممتلئ عن آخره.
عاود الكرة أمام استياء صاحب النظارة السميكة، دون جدوى.
- عفوا، لو سمحت؟
جاء الصوت من الخلف، فالتفت ورأى رجلا قصيرا يقول له:
- هل يمكن أن أجرب؟
قالها بثقة من يعرف أحوال الصندوق. كان هو نفسه الرجل القصير الذي كان يرصدها من المقهى المحاذي.
وحدق في وجهها البديع. حدق في عينيها الزرقاوين. حدق في ابتسامتها المثيرة.
ثم أمسك الرسالة واستشعر دفء ملمسها ودفع بها إلى فوهة الصندوق، وامتنعت عن الدخول.
حاول مرارا وقال خائبا:
- ربما الصندوق مملوء عن آخره.
فاستاء منه صاحب النظارة السميكة والرجل الطويل معا.
- عفوا لو سمحت
جاء الصوت من الخلف، والتفت ورأى رجلا أصلع يقول له:
- دعني أجرب.
كان الرجل الذي رصد الفتاة من عيادته بالمحاذاة... إلخ.
ظل المتطوعون يتقدمون لإدخال الرسالة في صندوق البريد، ويفشلون في ذلك، وصار عددهم يزداد وينمو ويتناسل ويتفاقم حتى تحلق حول صندوق البريد الأصفر كل الشارع، كل الحي، كل المدينة الصغيرة.
وبرغم ذلك الحشر الفحل من الرجال لم تلج الرسالة ثلمة الصندوق الأصفر الصغير.
التفتت الفتاة ذات الفستان الأحمر حولها مذهولة، مرتابة ومذعورة، ووجدت كل ذكور المدينة يتحلقون حولها. هي الأنثى الوحيدة وسطهم، تشبه خنفساء حمراء تجس نقطة صفراء وسط دائرة هائلة سوداء.
ماذا لو تمططت النقطة الصفراء (صندوق البريد) وابتلعت الدائرة السوداء (الجمهرة) ثم توسطتها الخنفساء الحمراء (الفتاة ذات الفستان الأحمر)، تماما مثلما لو كانت تتوسط زهرة عباد الشمس؟
هناك من اقترح إسقاط الصندوق الأصفر لمعالجة أمره، وهناك من اقترح توسيع فوهته بسكين، وكثيرون طالبوا بدورهم في المحاولة.
بعدها بلحظات مصطخبة، شق شخص يرتدي قبعة طريق الجمهرة. كان ساعي البريد. أفسحوا له الطريق ووقف أخيرا عند الفتاة ذات الفستان الأحمر وتحاشى التحديق في وجهها البديع. تحاشى التحديق في عينيها الزرقاوين. تحاشى التحديق في ابتسامتها المثيرة. تلقف الرسالة دون أن يتعمد التلذذ بتلمس دفئها، وقرب رأسها من فوهة الصندوق، وبغاية الليونة، انزلقت الرسالة وسقطت في جوف الصندوق.
ندت من الجمهرة الغفيرة آية إعجاب تضمر استغرابا، شبيهة بالآيات المذهلة التي يدلقها جمهور ملاعب الكرة الصفراء (لعبة التنس). ثم اصطخب لغوهم، غير مصدقين كيف فعلها ساعي البريد بتلك الليونة الساحرة والخارقة. هذا الذي رافقها على الرصيف باعتزاز وفخر وهي تقفل راجعة باتجاه الغرب بينما كانت تجزل له في طراوة الشكر وغبطة الامتنان.
في آخر ساعة من ليلة ذلك اليوم الغريب، تقدم الشاب، صاحب النظارة السميكة، إلى المكان، بعد أن تأكد له خلو الشارع من الحارس وشق الصندوق بسكين، وفتحه، فوجد الرسالة وحيدة تستقر بجوفه. تلقفها وأسرع باتجاه عمود الكهرباء. قبل أن يفتحها حاول اكتشاف عنوان المرسل إليه وقرأ:
الياباني
شارع الدائرة السوداء
زنقة اليرقة الحمراء
حي النقطة الصفراء
رقم...
ردد صاحب النظارة اسم المرسل إليه وهو يتمتم:
من يكون هذا اللعين المدعو "الياباني"؟
وتلا تلاوة بطيئة العنوان الغامض، الذي يسمعه لأول مرة!
على سفح العمود دائما، تحت المصباح فتح الرسالة وقرأ:
هذه أول محاولة لي في كتابة قصة قصيرة، أنا الملقب ب "الياباني".
كل ما أعلمه عن هذه القصة، هو بدايتها، وبدايتها كما هي مرسومة في ذهني هي على الشكل التالي:
فتاة ثلاثينية، بفستان أحمر، تظهر فجأة على الرصيف، متقدمة نحو صندوق البريد الأصفر المعلق إلى خرسانة قريبا من محل مكتوب على يافطته الصلبة: "مكتبة الرسالة"... إلخ.

طارق إمام
صور المانيكانات السعيدة

مثل القاهرة، كانت غرفة أبيه مدينةً مزدحمة، ومثلها، كان يقطنها شعبٌ صامت، لكن من المانيكانات.
كان أبوه صانعاً للمانيكانات الجبسية  في زمنٍ ما، انقضى الآن، تاركاً الأُسطى لبطالةٍ مبكرة. أغلق ورشته، وأتى بما تبقى فيها من مخلوقات لم تعد قابلة للتداول لتقطن البيت. لم يكن الطفل قد عرف بعد الفارق بين جسدٍ وآخر، حين استقبل شعباً من الدمى دفعةً واحدة، هو الذي لم يكن امتلك بعد دميةً لطفولته. 
تلك الذوات الصامتة ما لبثت أن أصبحت الروح الحقيقية للبيت، قبل أن يُدخِلها أبوه كلها في وقتٍ لاحق إلى غرفة نومه، طارداً زوجته، لتنام حتى موتها على كنبة الصالة، أو ربما هي من رفضت أن تنام في غرفةٍ واحدة مع تلك “المساخيط” التي كانت تتشاءم منها وتؤمن أنها جالبةٌ للنحس.
كانت تملأ الأركان، كأرواحٍ متجمدة، تُوزِّع نظراتها على الجميع فيما تنظر للا أحد. بسببها ظلت أمه تلح في الانتقال لشقة أوسع، “تكون فيها أوضة زيادة نلمهم فيها”. كان الأب يُلوِّح برأسه، تلويحةَ يأسٍ أكثر منها رفض. بعد ذلك يئست تماماً، وصمتت، كأنما أصابتها عدوى خرسهم، وقبل أن يبلغ المراهقة، كان قد أصبح الشخص الوحيد الذي يتحدث في بيتٍ يتنفس صمتَ قاطنيه.
جميع البيوت تضيق حين لا يعود الناس أطفالاً، لكن ضيق ذلك البيت عليه بدا له كما لو أنه اتخذ شكلاً ملموساً، وأكثر تجسداً من الأفكار. كان يشعر به مثل ثوب يتضخم جسده فيه، بينما الهواء نفسه لا يزال طفلاً.
أمه كانت تتكلم عن مانيكانات أبيه باعتبارها أشخاصاً حقيقيين، تخشى أذاهم. تتخبط بينهم ناقلةً رجفتها لمعدن كرسيها المتحرك، وتُخفض صوتها عندما تتحدث عنهم، ثم تبصق وتستعيذ.
مبكراً، سترت أجسادهم العارية بالملابس. ذهبت ملابسها القديمة لما يلائمها من أجساد النساء، وذهبت ملابس أبيه لأشباهه من الرجال، واستلفت من الجارات ملابس بمقاسات مختلفة لتفي بتنوع مقاييس الباقين، بينما آلت الملابس التي تضيق عليه لأقرانه الجبسيين. هكذا، ومنذ نعومة أظافره، كان هو من يعرض للمانيكانات الملابس التي سترتديها بعد ذلك.
 لم تكتف بسترٍ خارجي لعريهم، فقد منحتهم أيضاً ملابس داخلية، فانلات وسراويل، كلسونات أبيه حين يحل الشتاء، وجميع سوتياناتها التي لم تعد ترتديها. خصصت يوماً في الأسبوع لغسيل ملابسهم، وأحياناً ما كان يلمحها تتشممها متأففة كأنها تخص أجساداً إنسانية.
أما أكثر ما كان يثير اندهاشه، فحنق أمه حين تضيق ملابس على البعض وتتسع أخرى. كانت تبرطم بضيق فيما تعيد تقييف الملابس على ماكينة خياطتها القديمة، دون أن يفهم أبداً كيف لجسدٍ غير بشري أن يكتسب كيلوجرامات أو يفقدها.
يتذكر شهقتها حين دخلت الحمام ذات مرة فوجدت تمثالاً جبسياً مقرفصاً على الكابينيه وقد أنزل بنطلونه ليقضي حاجته. بعد ذلك سيخبرها زوجها أنه من نسيه على هذه الوضعية بينما كان يحلق ذقنه، لكنها لن تصدقه. كانت ذقنه غير الحليقة دليلاً دامغاً على كذبه، وكذلك البقايا التي تؤكد أمه أنها رأتها تسبح في ماء الكابينيه، والتي لا يمكن أن تكون غائطاً إنسانياً.
عندما يلمح أبوه الغيرة في عينيها، كان يقول ساخراً وكأنه يقر حقيقة: “ما تجوزليش”. كان ذلك قبل أن يسأل الابن نفسه مندهشاً، ما الذي يجعله ينتصب كلما كشف عورة امرأة جبسية أثناء نومهما؟ وربما بلماحية الأب، كان هذا أحد الأسباب التي عجَّلت بقراره الذي نفّذه ذات ليلة، ليُكدِّسها كلها في غرفة نومه، محرِّماً على الابن من تلك الليلة أن يَدخلها أياً كان السبب.
شيئاً فشيئاً سيتفهم رفض أبيه الانتقال إلى شقةٍ أخرى، أو بالأحرى يأسه. لم يكن السبب عوزه _ هو الذي لم يعد يملك حتى ما يقيم أود الأسرة _ لكن إدراكه أنه مهما اتسع البيت، ستجيد تلك الرعية الخرساء تضييقه، بالضبط مثلما تفعل مع المدينة، فمهما توسّعت المدينة وتشعبت، كانت تجد لنفسها مكاناً فيها، لتُبقي على ضيقها.
لقد كانت قادرةً أن تمنح القاهرة نفسها روحها غير المعلنة، لتصبح المدينةُ كلها ابتسامةً موحدةً خلف الزجاج، سلعةً سعيدة لا يملك ثمنها أحد.
عندما كبر قليلاً وندهته المدينة، أصبح يقف أمام الباترينات، ليس كعابر. كانت تلك البيوت الزجاجية غرف بيته، وجميع العيون المطفأة خلف الواجهات هي نظرة المدينة له.
مُلهَماً، ما لبث أن اكتشف أنها كالبشر، تشبه أماكنها وتنتمي لشروطها لتصبح امتداداً لها. كان يستطيع بسهولة تمييز الفارق بين مراهقات باترينات وسط البلد ومراهقات الضواحي، ويجيد تحديد المسافة الدقيقة بين رِفعة مانيكان سيدة مجتمع تنتمي للزمالك ونظيرتها في باترينة بجاردن سيتي، أو بين شقاء طفل معروض في المطرية وقرينه في حلوان. إنه شعبٌ موازٍ، يتضاعف تعداده باضطراد تزايد المواليد نفسه، لكنه لا يغادر حدوده أبداً، ليس لأنه يفتقر للأرواح، لكن لأنه لا يملك سبباً للاقتتال، فليس من بين هذه الدمى من يعتنق ديناً أو يشجع فريق كرة أو يصدّق حاكماً.
المانيكانات فقط هي من سمح لها برؤية وجهه، كاملاً وفي أقرب نقطة. وبقدر ما كان يتأملها، كان يعرف أنها أيضاً تتأمله، مدركاً أنه_ هو وجميع هؤلاء البشر _ مثلها، معروضين، على الضفة المقابلة من الزجاج، موضوعاً لفُرجتها، وأنها ربما، ومثلما يؤمن البشر أنها موجودة من أجلهم، تؤمن أنهم أيضاً موجودون من أجلها.
لم ينظر أبداً للثياب فوق أجسادها، تلك التي كان دائماً أكثر فقراً من أن يشتريها. لم يمارس في مرة ذلك العجز، حيث تتمكن دمية من عرض ما يستر عري جسد إنساني. كان يعبر الأقمشة ببساطة نحو أجسادها العارية، ذلك أنه حُرم مبكراً فرصة رؤية ذلك العري في بيته.
في مراهقته كان يلصق صور المانيكانات السعيدة على حوائط غرفته، ينزعها من إعلانات الصحف والمجلات، بالطريقة التي ينتزع بها آخرون صورة ممثل أو مطربة أو لاعب كرة. عندما كبر قليلاً، مزقها كلها في لحظة كمن غادر مراهقته دفعةً واحدة، مقرراً أن يرسم بنفسه مانيكانات واقعه على حوائط نومه. هكذا نال كل مانيكان في البيت وجوداً موازياً، بحيث يملك جسداً في غرفة الأب وظلاً في غرفة الابن.
من جانبها تعاملت أمه مع ما يفعل كامتدادٍ ما لحياة أبيه الغريبة. كانت قد صارت ضيفةً في البيت وانتهى الأمر، ضيفةً على الأشخاص الجبسيين في غرفة نومها وعلى صورهم في غرفة نوم ابنها، حتى أن وجودها بدا الشيء الوحيد الزائف في ذلك العالم غير الحقيقي.
عباءة الحداد الوحيدة التي تملكها أمه، والتي حضرت بها جميع العزاءات، أصبحت أخيراً رداءها البيتي وقد صار الحدادُ دنياها، بينما تتجوَّل على كرسيها المتحرك عابرةً الطرقات الخرساء لمدينةٍ ضيقة لم تعد تعبأ بها. كانت تتحرك ككتلةٍ داكنة، ناتئة حد النبذ في ذلك العالم الشاحب للمخلوقات والحوائط، شديد البياض قبالة سوادها الكامل وكأنهما حسما خصامهما انطلاقاً من الشكل. ويبدو أنها فعلت ذلك كأملٍ أخير في العثور على نفسها داخل ذلك البيت الذي راح، بإصرار، كأنه يملك إرادةً ذاتية، يطفو فوق الواقع.
في أيامه الأخيرة أصيب أبوه بلوثاتٍ غير مفهومة، بدأت بمنحه أسماء ثلاثية لمخلوقاته. ذات يوم أيقظه في الفجر مضطرباً، وكانت المرة الأولى التي يدخل فيها غرفته. طلب منه أن يتبعه دون كلمة. تسحَّبا على أطراف الأصابع كي لا تستيقظ المرأة المتكومة على كنبة الصالة. في غرفة أبيه التي لم يكن وطأها منذ سنوات، رأى جثماناً جبسياً مسجى على السرير، محاطاً بعيون أقرانه المحدقة. غسَّله رفقة أبيه بالماء وسكب معه سوائل زيتية وعطرية لا يعرف من أين أتى بها، جعلت الجثة مثل عطرٍ متيبس. أحكما إلباسه الكفن الذي لا يعرف أيضاً متى ولا كيف جاء أبوه به. ومتَّبعاً تعليمات الرجل، رفعه معه على “الخشبة” التي لم يعرف مجدداً من أين ولا متى جاء بها.
حمل أبوه النعش من الأمام وهو من الخلف، وخرجا به مهتزّيْن تحت ثقله، في فَجر الشارع الصامت، دون أن يجيب أحدهما على سؤال الناس الملهوف عن هوية الميت، والذي كان يجب أن يكون أمه. بوصولهما للمقابر كانت أكتاف كثيرة  قد تزاحمت تحت النعش طمعاً في المؤاجرة حتى أنها لفظته. كانت المقبرة مفتوحة، ويبدو أن أباه جهَّز كل شيء بطريقة غامضة لأن أحداً لم يسأل عن شهادة وفاة أو يطلب تصريح دفن.
 عبر أبوه إلى ظلمة المقبرة، ومرر هو إليه الجثمان الحجري.
مضاءً بكشافات الموبايل من المتطلعين لجوف التربة، ظل يتابعه حتى أرقد الجثمان بالشكل الصحيح مواجهاً القِبلة، ثم فك أربطة الكفن وأهال عليه التراب مهمهماً بآيات قرآنية. عادا للبيت صامتيْن أيضاً، دون أن يتبادلا كلمة، ودون أن يعودا للتحدث في ما حصل مرة أخرى، وكأنما تواطآ على أن ثمة ميتات تُوارىَ اللغةُ ترابَها.
حتى أمه، التي كانت في اليوم التالي قد عرفت بما حدث من الجيران المتسائلين، لم تستفسر ولم تندهش. بدا أنها تصالحت أخيراً مع فكرة أن يشاركوها المقبرة، هي التي خشيت أن يقاسموها الحياة. لقد غابت بدورها في هذيانها الخاص، حتى أنها أصبحت تنزع عن أذرع وسيقان وعانات إناث الجبس شعراتٍ تراها وحدها، بعجينة نتفٍ ثقيلةٍ وموجعة، كفت هي نفسها منذ زمن بعيد عن صنعها لتنظف جسدها الذي كساه الشَعر.
ذات يوم، كان يضع اللمسات الأخيرة على امرأة في حائط غرفته عندما سمع الصرخة. كان أول ما فكر فيه، قبل حتى أن يحرّكه الرعب، كيف أن تلك الصرخة تنتمي لأمه أكثر من أي شيء آخر، أكثر منه، ومن جسدها، رغم أن لا علاقة لها بما يُفترض أن يكون صوتها.
يعرف تلك الصرخة، اشتركت فيها جميع الجارات، وكأن كل النساء يملكن صرخةً واحدة عند رؤية الموت، صرخة يضيع معها حتى الصوت الأصلي، حد أنه يمكن لواحدةٍ أن تستعير صرخة جارتها.
في طفولته رأى الصرخة المدوية في حلق جارة الدور العلوي البكماء عندما ماتت أمها. كل ما شغله وهو غائب في سواد عباءة أمه بين الجارات، كان من أين نبع الصوت. وكأي طفل يلهو بالموت، ظل يشد عباءتها وهو يسألها، “هي جابت الصرخة دي منين”، وأسكتته هي بجدية واقتضاب: “استلفِتها”.
لم يكن فهم بعد كيف يمكن للصوت نفسه أن يُعار، هو الذي نشأ في بيت لا يملك أصحابه على وجه التقريب أجسادهم. لكن صرخة أمه تلك، كانت هي صوتها، وقد عثر لنفسه أخيراً على سببٍ ملائمٍ كي يُعلن عن نبرته.
كان أبوه يغلق غرفته على نفسه من الداخل بالساعات، لكن تلك المرة طال غيابه لينقضي يومٌ واثنان وهو حبيس جدرانه. ولمّا هيئ لأمه أنها تنسمت رائحة تحلله تعبر عقب الباب، أطلقت الصرخة الأولى.
عندما قطع الخطوات اللازمة، متيبساً خلفها في حلق باب غرفة نومهما المحطم بدفع الجيران، رأى ما رآه الجميع، حتى بدا أن موت أبيه كان محض عرض. كانت أنثى المانيكان مطروحةً على السرير، مرفوعة الساقين، وكان هو فوقها، داخلها، جاثياً، بعُريه المتجمد.
 للحظة، نقل نظره بين الساقين المرفوعتين على السرير ونظيرتيهما المتدليتين على الكرسي المتحرك، واندهش، لأن هاتين الجبسيتين، كانتا أكثر حياة من ساقي أمه الميتتين.
كانت المرأة المقعدة تواصل الصراخ، صراخ لوّنت نبرته لوعةُ الخديعة هذه المرة وليس الحزن، وكانت الأنثى العارية في الفراش، بذراعين معقودتين على الصدر كأنها تخبئ ثدييها، توجِّه نظرتها المصدومة للجميع.

إبراهيم أحمد عبد العاطي
دعد 

"لو أنك دققت النظر إلى الأشياء تغيرت الأشياء."

كانت الأشياء في بيتنا واضحة تماما. والمراكز محفوظة. أبى له سرير. لا يجرؤ أحد أن يرفع ملاءته وينام. أوامره تصدر إلينا عبر الخادم. وحينما يعود فى المساء لا تراه عيوننا. حتى أننا نسينا وجهه. أيضا ظللت طول حياتي أعلم علم اليقين بأنى لست أبنه الوحيد. ومع ذلك فقلما أعرف ملامح أخوتي. وفيما عدا ذلك الاستثناء كنت الاحظ نفسى وكأنى أنا شخص آخر، يتصرف كأنه الابن الوحيد.
حدثتنى أمى قالت:
"عن أمها، عن أمها، .... إلخ؟"
- كان زوجي، أبوك، فارع القامة. يمسك الطيور من السماء حين يمد ذراعه. وكانت السحابات الواطئة تخفى رأسه. وكان يعود مرة في كل عام. لأنه دائما يرحل عنا إلى بلاد لم أرها أبدا. وحين كان يقدم علىّ يغلق الباب والسُتر.  وفى الظلام يقبلنى ويحوطني بذراعه. وفى الصباح كان يقابل إناسا غرباء لا يأتون إلا في ذلك اليوم. وقبل أن يحل المساء التالي كان يرحل.
كان الخادم يبلغنا كلام سيدى. يهمس بكلام خفيض. لكنه حاد كطرف سكين. وكان يقول وهو يضع إصبعا على فمه:
- "إنه يرى .... "
فكّرتُ أن قضبان النوافذ عديمة الفائدة.. لو أحضرت كرسيا فوق كرسي وصعدت.. لا تطول أصابعي حتى حوافها.
والشمس تستطيع مع ذلك أن تصل إلينا:
فما هى مواهب الشمس؟.
.. لم أكن أر فى بيتنا سوى ثلاثة مقاعد.
كنت أصحو وسط الليل. وأفتح عينى وأذنى. فإذا كلام بعيد كأنه صدى صوت يصرخ فى مكان سحيق. وأرمى الغطاء وأقوم، والصوت يجرجرنى وراءه، فأمشى فى ردهات لا أراها بالنهار. طويلة طويلة وضيقة. وحيطانها مرتفعة جدا حتى لا أكاد أرى لها نهاية. وأظل أمشى وأمشى حتى يطلع نوع من الفجر. تضيئه شمس فضية لطيفة. فتختفى الحيطان. وأجدنى فى صحراء واسعة بلا ضفاف ولا تخوم. أرضها من ماء مستو بلا أمواج. وصاف ولكنه لا يكشف عن القاع ولا الأسماك. وتمر مركب من زجاج أمامى تماما وأمد يدى فلا ألمس شيئا، وأرى فى الوسط تماما نافذة بقضبان وخلفها وجه أبى واضح القسمات، عيونه خضراء كياقوته، لكننى أعرف يقينا أنها لا يمكن أن ترى. وأناديه بصوت عال جدا. وأشعر أن صوتى لا يصل إليه – فالهواء معدوم تمام. وتقبل المركب نحوى، وتمر فوقى، وأنفذ خلالها، وتعبرنى. وعندما تنتهى من العبور أدير وجهى إلى الخلف فلا أراها، وإذا الماء لونه أحمر ولزج جدا، ويرتفع ويرتفع، حتى يصل إلى عنقى، ولكنه يرتفع ثانية، فأغطى وجهى، وتأتى فتاتى "دعد" التى حدثتنى عنها أمى. ولكنى لم أرها قبل اليوم. فتضمنى تحت جناحيها وتطير. وأنا لا أزال أغطى وجهى. ثم تضعنى فى السرير وتغطينى.. وعندما ألمس نعومة الفراش أكشف وجهى لأراها فأجد الخادم بباب الغرفة يقول لى:
- "أنه يرى أنك تستيقظ وتتناول الأفطار".
فلا أعرف ماذا أجيب، وانصاع فى سكون. 
كان المدرس يأتى ومعه جرس وسبورة وقلم. 
وكان يعلمنى الحروف والأعداد ومبادئ الرسم. 
وعندما ينتهى يغلق باب الحجرة ويذهب. وأظل أنا أفكر : من أين يأتى؟ وكيف يخرج؟ وأين يختفى؟.. فإن بيتنا لا ابواب له ولا أعرف هل هناك شيئ خلف جدارنه. 
كنت دائما، وظللت، طوال سبعين ألف عام من طفولتى أفكر فى شئ واحد:
- كيف تولد الورقة من الشجرة، ومع أن الورقة أهم فلماذا تسقط وتذبل؟.
ذات يوم جرؤت أن أقول للمعلم:
- ما الذى يجعل الألف أول الحروف، والواحد أول الأرقام؟.."
- "لماذا نرسم العين دائرة حولها قوسان مغلقان...".
فاختفى المعلم ولم يعد قط.
وحينما سألت أمى عنه، قالت شيئا غريبا:
- "إنك تستطيع منذ الآن أن تسير على قدميك فقط".
ومن يومها لم أر أمى أبدا..
فسألت الخادم فقال لى :
- "إنه يرى أنك تتناول العشاء وتذهب إلى فراشك".
أبى اليوم موجود فى المنزل. لكنه يغلق باب حجرته عليه. وكنت أعرف أنه موجود دون أن يقول لى أحد شيئا (وقد لاحظت أننى لم أره البتة، ومع ذلك، أشعر أننى قابلته يوما ما، وجها لوجه).
أعرف أيضا أن أمى تصنع اليوم، خبزا كثيرا ليجف فى الشمس. وقال لى الخادم:
- "عندما تنتهى تستطيع أن تلعب. أما الآن فلا تتكلم لأن أباك نائم".
لكنها لم تنته قط.
ونظرت إلى النافذة البعيدة فرأيت ضوء الشمس يسقط على عينى لكنى لم أر الشمس ذاتها وتمنيت أن تغرب. وعندها : صرخت.. ووقعت على الأرض، وانغلقت عينى إلى الأبد. فحملنى الخادم وقطع أذنى وأعطاها للقط فأكلها. وضربنى على قدمى فبكيت. وأحسست أن مياها تغمرنى. فمددت يدى إلى قلبى ووجدته يدق فاطمأننت. وأمسكت السكين وقطعت أذن الخادم وأعطيتها للقط فأكلها. وأمسك الخادم بالسكين وقطع أنفى وأعطاها للقط فأكلها وأمسكت السكين وقطعت أنف الخادم فأكلها وأحسست أن مياها – جديدة – تغمرنى فمددت يدى إلى قلبى ووجدته يدق أسرع من الأول فاطمأننت وظلت الدقات تسرع وتسرع حتى اختفى الإيقاع. وأحسست به حركة سريعة فحسب. فقمت وظللت أدور حول نفسى، وجاء أبى ورأيته حولى من كل صوب، وأردت أن أقف فلم أستطع. وأحسست أن مياها تغمرنى، ومركبا من بللور ينفذ خلالى والتفت خلفى ولم أجد شيئا وكان الماء لونه أحمر ولزج. وجاءت (دعد) وصبت فوقى كيسا من النجوم. فكنت أتناولها نجمة نجمة وابتلعها وأحس  ببطنى ينتفخ وأقدامى تسوخ فى وصعدت داخل شجرة. وتحولت إلى ورقة خضراء، ثم ذبلت وسقطت على الأرض. وجاء الخادم وقال لى:
- "إنه يرى... "
لكنني لم أسمع بقية كلامه. وجاءت أمي، وشقت صدرها وأدخلتني إلى قلبها، ثم أغلقت القلب. فسبحت خلال الدماء ورأيت مخلوقات عجيبة تشبهني تماما. وظللت أنظر إليها وتنظر إلىّ حتى تهت بينها. فلم أعرف نفسى منها وفقدت نفسى إلى الأبد. وجرينا جميعا داخل عروق تزداد رفعا ونحولا باستمرار، وظللنا جميعا نتضائل حتى امحينا.
قال الخادم : "لا استطيع".
وقال أيضا : فى بيتنا الأشياء واضحة تماما. والمراكز محفوظة ومحددة. أبى ثم أمى ثم الخادم ثم القطة ثم أنا".
قلت له : " تقصد أنا أنا"
فقال : " لا يهم.. "
وحينئذ سألته عن (دعد) فقال أنه لا يعرف شيئا بهذا الاسم. فسألته عن (دعد) بإصرار. فقال أنه لم يسمع بهذا طوال حياته.
قلت له : "اتقسم".
فرد بالإيجاب.. فتركته.. وسألت القطة ولكنها لم ترد. ورأيت أسنانها مصبوغة من دماء "دعد".
حاولت أن أمسكها، ولكنها فرت. فضحك الخادم منى فخجلت، وخرجت الدماء من وجهى بغزارة.. وقال لى:
- "لابد أن تدلى بشهادتك بصدق وأمانة"
فقلت له: "إن القاضى لا يصدقنى".
قال "أنه سيوصيه" – قلت له : لكنه لن يصدقني".
فزمجر في وجهى. وخفت منه ووعدته فسكت. ثم ذهب ولم أره. وأمسكت القطة ولاطفتها فابتسمت لي. وسألتها : "أين (دعد)؟".
ففرت من بين أصابعي واختبأت ورأيت صفا يتقدم نحوى في خطى مضبوطة. وكانوا كثيرين ولا يمكنني أن أحصرهم. فإن المدرس لم يعلمني من الأرقام غير رقم واحد. واستطعت أن أميز وجوههم، وكانت مسطحة كأنهم أشخاص بلا سُمك ولا طعم. وظل الصف يتقدم ويقترب منى ولكنه لا يصل إلىّ أبدا. ويظل يقترب ولا يصل ويقترب ولا يصل وازدحمت الحجرة بهم، وظلت أصواتهم تعلو وتعلو واستحالت إلى ضجيج ثم إلى أصوات مرتفعة تصم الأذن، ولم يشعر أحد بوجودي فانسللت إلى السرير ورقدت فوقه. وغطيت نفسى بالغطاء حتى لا ينفذ الصوت إلىّ. ولكنه كان عاليا جدا يصم الأذن وقد استحال إلى أزيز. وعندئذ صرختُ وهنا سمعت صوتي وحده فقط. فظللت أصرخ وأصرخ حتى حاولت أن أصمت فلم أقدر. وجاءت (دعد) وقبلتني ولكنى لم استطع أن أوقف صوتي فغضبت منى وحاولت أن أشير إليها حتى تلاحظ عجزي ولكنى لم أقدر أن أحرك حتى يدى. وظل صوتي يخرج ويعلو وأحسست أننى أختنق وأن روحي تتركني وتغادرني. وجاء الخادم وقال: "لقد مات"..، فأردت أن أخبره أننى مازلت. ولكنني ظللت أصرخ وأصرخ. وكان حريق فظيع يلتهم الخارج ويطبق على السرير. وطقطقت عظامي. وقال الخادم: "لقد مات".، وحاولت أن أخبره أننى مازلت، فلم أستطع، وعندئذ قررت أن أكف عن المحاولة واستسلمت، لأنني كلما حاولت لا استطيع.. وعندئذ أغمضت عيني، ورحت في سبات عميق:
وحلمت أننى رجل عجوز. 
ورأيت وجهى ووجه امرأتي ففزعت.
ارتجف جسدي من الرعب.
فضحكت امرأتي، وعندها صحوت .
فضحكت امرأتي، وعندها صحوت.
وجدت نفسى على سرير أبى، وهو، وأمي، والخادم، والقطة، و(دعد)، يبكون في صمت، وسقطت على خدى دمعة لا أعرفها... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق