أحمد الفخرانى



الكاتب المصرى 
أحمد الفخرانى
 الماما ..

لم يكن هناك ما يذكر.. صحوت ذات يوم وجدت نفسى أمام قلعة عظيمة يحكمها خفاش ضخم، كنت أعزل إلا من جراب ماء.
حدثنى الماء قائلا: "لا أمل فى نجاتك سوى فى حكاية خرافية.. هناك ينتصر الخير بأخطائه، على الشر بدقته.. ففى الحكايات الخرافية فقط هوية الشر هى التدبير.. بينما هوية الخير هى اتباع الغرائز بصدق ".
من المضحك أن يتفلسف عليك جراب ماء فى صحراء بلا حكاية محتملة سوى الموت.
لكنى لم أجد أملا سوى الولوج فى حكاية خرافية.. الصحراء أمامى..  وخلفى بوابة العودة.. إلى فراش دافىء وزوجة بلا أنياب وعمل مستقر.. لكن كل هذا  الأمان الظاهر فى اتجاهى نحو بوابة العودة كان محض خدعة.
كنت أربح جيدا من عملى، فلم أكن أخلو من الموهبة.
وأنا صغير لم أكن أعرف إنها موهبة بل خطأ فادحا يستوجب الشعور بالذنب الذى لم يفارقنى أبدا حتى فى حكايتى الخرافية.. بل يصحو فزعا فى كل مرة كنغزات سكين فى بطنى.
فى بلدتنا، كان أبى يبيع الفازات، بلدتنا كلها كانت تفعل، لكن أبى كان الأشهر والأدق، الرجل الذى لا يعرف الخطأ، صانع الفازات التى لاتحيد عن تناسق مقدس.
وأنا كنت مفعوصا للدرجة التى لا تجعلنى أعرف الفارق بين كونى مفعوصا حقا وبين استخدام ذلك كمجاز.
بلدتنا كانت خلف تل، العالم أمامه كسجادة مكورة لم تفرش بعد، لم أكن أسأل عن العالم، كانت حيرتى الحقيقية هى المجاذيب الذين يطيرون إلى بلدتنا من خلف التل، لماذا  لا يطيرون نحو ما يجذبهم ويجيئون إلى بلدة بلا لذات؟.
فيما بعد عرفت إن للذة مسارب لا يدركها أحد، كلذتى عندما كسرت الفازة الأولى، كان ذلك مخيفا وممتعا، ثار أبى، لابسبب الفازة بل لسخرية البلدة من ولده وارث
ملك الفازات والذى جعل سمعته كفازة مكسورة، تبع ذلك عقابا شديدا، لم يكن ذلك مؤلما قدر ما كان غريبا.
وقفت ثلاث ساعات على قدم واحدة، وأنا أحمل فازة ضخمة ومتناسقة بيدى، كان المارة يسخرون منى، اعتقد بعد كل هذه السنوات، إن هذا كان الهدف: أن أعرف قيمة الفازة وأن أفهم إن إهانة تناسقها يعرضنى أنا أيضا للإهانة.
لم أكن غاضبا من تلك السخرية، لم أفهمها وقتها، كنت متوائما تماما مع استحقاقى للعقاب، لذا كنت أبادلهم السخرية بانتكاسة فى الرأس، ووجه غارق تماما فى ماء الذنب وينتظر الغفران.
لكنى الآن غاضب وبشدة. كلما تذكرت أن أخطائى كانت عرضة للهتك، كلما احترقت بالرغبة فى حرق فازات العالم كلها.
كنت موهوبا فى كسرها بشكل متقن، لم أكن أحطمها، فذلك يحتاج للشر والغضب لا اللعب، فقط امنحها كسرا رقيقا، ينزع قطعة ليمحو تناسقها القبيح، المقدس بلا داع أراه.
لم أكن أعرف إنها موهبة، كنت فقط مجذوبا إلى كسرها، أشياء كتلك لا يمكن السيطرة عليها، ولا حتى بالوقوف على قدم واحدة لتقبل عزاء الكرامة.
بعد انتهاء الثلاث ساعات، عزمت على عدم العودة إلى الخطيئة، قاومت وبلغت فى ذلك شأنا عظيما، فلمدة ثلاث أشهر لم أقرب فازة، فبإمكاننا جميعا السيطرة على الواقع، لكن الأحلام، تلك التى تأتينا كالمجاذيب من خلف التل، لم يكن بالإمكان ايقاف اجتياحها، فقد كنت أحلم يوميا بفازات مقدسة، تتدلل على، وتقبلنى، لم تكن ترغب فى أن أكسرها ولا تحطيمها، بل بمضاجعتها، لم أحك لأحد  هذا الحلم، ولم اخجل منه يوما، فهو مجرد حلم، ثم إنى لم أكن أعرف إن ما يحدث فى الحلم  هو رغبة فى المضاجعة، فعضوى كان هادئا فى انتظار الفهم.
قاومت حتى عرفت سر أبى، صندرة بباب مسحور، يخبىء فيها فازاته المكسورة، لم اتساءل وقتها عن سبب احتفاظه بالدنس، فقد انشغلت بسكاكين الذنب التى تغازل بطنى.
كانت كسورا عادية، قبيحة، لا تحفز الرغبة، لكنها لم تكن حزينة، أو مستاءة، لا أجزم إنى رأيتها تفرح أوترقص أو تقيم حفلة ماجنة، تلك أضغاث رؤى طفل، عضوه لم يفهم بعد تدلل الفازات عليه.
لكن ذلك ما رأيته وأنكرته طويلا عندما كبرت واضطررت للاختيار بين حياتى وبين حكاية خرافية للخلاص من عدم الفهم المقيم فى الإنسان: حفلة تغنى فيها الفازات القبيحة وترقص وتوزع الكيك.
حكت لى إحداهن الحكاية: عن أبى الغاضب دوما، لأنه لم ينجح مرة أن يكسرهن بشكل جيد.
تقدمت منى فازة، كانت أقرب إلى التشويه، عرفت إنها نتيجة ثورة أخيرة لم يقرب أبى بعدها الفازات بغرض الكسر.
أثناء رقصى معهن، قدمت كسرا جديدا للفازة المشوهة، حولها إلى فاتنة، كان ذلك مخيفا وممتعا، لكن نغزات السكين، حولت متعتى إلى جحيم، لكن الجحيم الأكبر، كان رد فعل الفازات، ظننت إنها ستركع لى لأحول كسورها إلى فتنة، لكن ذلك لم يحدث، بل هجموا على الفازة  الفاتنة، حطموها تماما، ثم طردونى خارج الحفل، الذى لم احتفظ منه سوى بالذكرى وقطعة من الفازة المحطمة.
ذلك ما أنكرته طويلا، ففى الحقيقة التى ندركها كبارا إنى من حطمت الفازة المشوهة، وأن الحفل الوحيد الذى أقيم كانت شقاوة طفل يعبث بدنس أبيه
 خرجت من صندرة أبى، ثم مررت على فازات البلدة المقدسة، وكسرتها جميعا منتحلا الأداء المقدس لسيدنا إبراهيم، كنت اتفهم شجاعته تماما فالله يحميه، لكنى لم أفهم أبدا سر انجذابى، فلا أحد يحمينى،  فالله ينحاز صراحة إلى أبى.
حتى إنهم عندما اكتشفوا فعلتى هددونى بالنار، نار الله الموقدة، التى تنتظر عقوقى البين.
كان ردى: بل فعلها شخص خلف التل، يجذبنى لكسر الفازات
أبى تعثر وبدأ فى بكاء لم افهمه، لكنه أشعل نغز السكاكين فى بطنى.
توقفت مرة أخرى عن كسر الفازات فى العلن، ولعبتها فى سرية تامة، حتى اكتشفنى مجذوب، قال لما رأى صنيعة يداى: سبحان الذى أودع فى الإنسان ما لم نعلم.. ثم باركنى معلنا: اكتشاف خبية أخرى من خبايا الله.. طاقته المودعة فى مذنبين صغار.
كنت أكبر قليلا لأسأله: أين يقف الله؟.. قال: لا أحد يعلم لكن ربما خلف التل.
ذات مساء راودنى حلم آخر، دفعنى للذهاب بعيدا عن تلك البلدة التى لم تفرش سجادة العالم.. كانت الفازات القبيحة تردم نبعا ما داخلى، نبعا مضيئا، لم أعلم أبدا إن كان مضيئا بالخير أم بالشر، ففيما بعد نطحنى السؤال: هل يعنى الضوء حقا إن الله بجانبك؟.
قمت مرعوبا، حملت القطعة الباقية  الفازة الفاتنة، ورحلت بعيدا عن البلدة، مجذوبا إلى خارج التل، أو فارا من قبح الفازات، لا أذكر على وجه التحديد.
فى البداية، لم أجد شيئا خلف التل سوى ثلاث سكارى يتبادلون النكات حول العالم، الذى بدا ضبابيا، كسجادة مكورة لم تفرش بعد.
قال الأول للثانى: هل تعرف مالذى سيحل بنا يوم القيامة؟
قال الثانى: لن نشعر بشىء سنكون مخمورين.
سأل الثالث: لا أشعر إن الله ينوى تكرار التجربة بعد انتهاء العالم.. لو كان سيفعلها لمنحنا فرصة أخرى.
رد الأول: سبحوا لمن له الدوام.
تعجب الثانى وسأل: أين يقف الله؟
قال الثالث: هناك.. مشيرا إلىّ لكنه لم يكن يرد على سؤال الثانى، كان قد رآنى فقط.. ثم أكمل جملته: هناك شخص يراقبنا.
اقتربت منهم..ٍ سألتهم عن أقرب مكان لفك الحصرة، ضحكوا بصوت عال، ثم قالوا: لا يوجد أفضل من الخلاء للطرطرة.
قضيت حاجتى ثم سألتهم: أين ذهب العالم؟. ولم يبدو الطريق غائما هكذا؟
قالوا: لأننا سكارى..
نمت من التعب، أو الخوف، أو من  انتظار أن تفرش سجادة العالم.. لا أذكر.
عندما استيقظت وجدت نفسى محشورا فى قطار، وسط أجساد قطيع من السكارى، لم أعلم إلى أين، فكرت فى الاعتراض أو الصراخ، لكن منظر الجنود الغاشمين، جعلنى أبتلع عدم الفهم.
سألت رجلا محشورا بجوارى: لم نحن هنا؟
فأجاب وهو مطأطىء الرأس: لأننا مذنبون.. بعضنا سيذهب إلى النار.. وبعضنا سيأخذ فرصة أخيرة للتكفير عن أخطائه.
فكرت فورا فى كسر فازات أبى، واعتقدت إن مصيرى سيكون النار.
سألنى زميلى المذنب عن خطيئتى، فكذبت: لا أعلم.. اعتقد إنى هنا بالخطأ فأنا لم أكن أسكر بل طرطرت على الخلاء فقط.
كبت ضحكة ثم قال: لسنا هنا من أجل الخمر.. قالها ثم تلفت يمينا ويسارا: لقد قلت شيئا عن الماما.. شيئا أغضب الحقيقة.
سألته ببلاهة: من هى الماما؟.. أمك؟.. وما هى الحقيقة؟.
متجاهلا أسئلتى قال بصوت مخنوق: هل تعتقد إنى سأنجو؟.
ثم بدأ فى بكاء دفع أحد الجنود إلى لكزه بكعب بندقيته.
كنت فى موقف صعب حقا، لكن هذا لم يمنعنى من الضحك على سذاجة  رجل يساق إلى النار لمجرد خطأ تافه.
***
ثمة قصائد ميتة فى حوض سمك، وعاشق يحاول عبور سور عال لاصطياد الأرواح، غراب أبيض يشيع الفوضى فى كل شىء، يسرق الأعمار والنعال ويحيل اللعبة إلى جحيم.
كل هذا الوهن لم يمنع الماما من الشموخ والسطوع والطرطرة من فوق منبر عال على الخلق.
أنا ؟
الراوى ؟ وربما الماما هى من تروى لك تلك الحكاية لم أعد أدرى فقد اختلطت الأمور منذ زمن طويل حتى إن يقينى الوحيد بإنى أكره تلك الماما قد تزلزل تماما ولتوخى الدقة تشظى إلى آلاف الرغبات والمشاعر المتناقضة تماما.
احقاقا للحق لم تكن الماما وحدها هى المسئولة عن هذا التشظى، بل هؤلاء الذين لم يقتنعوا إنها ليست كائن رقيق، بل هى من ساعدت الغراب الأبيض على سرقة أعمارنا.
كنت أقول: صدقونى لست مخطئا.. أنا فقط معذب بالبصيرة لكنها بصيرة بلا حكمة، فلم أتمكن أبدا من هزيمة شخص مكشوف من اللحظة الأولى، لم أتمكن من جمع الدلائل المادية التى لا تصدقون سواها لأسد مؤخراتكم الثرثارة بها.
لذا توصلت إلى أسوء الحلول على الإطلاق، حل وسط، فقلت إن الماما ما هى إلا كائن رقيق يجب نسفه، لذا لم أنعم أبدا برقتها أو بمتعة نسفها.
لجأت إلى أضعف الايمان، قتلتها فى أحلامى، ثم فى اللحظات التى تسبق نومى، ثم استحال النوم بدون هذا الاحساس المريح: أن تمسك سكينا حادا وتمزق هذا الصدر الملىء بكل ما عرفته البشرية من قذارة، قذارة اسمها الأخلاق.
اعتذر عن الحدة، فأنا مضغوط ووحيد ومهزوم تماما أمام تلك الماما.. حتى إنى لم ابدأ الحكاية..
الحكاية؟
ربما أعرفها وربما تعرفها تلك الماما.. وحدها كما تخبرنا صباح كل يوم.. تعرف المنبع والمصب وتتحكم فى السريان وتمسك الحقيقة وتخبئها مننا نحن المساكين فى مؤخرتها (تلك للسخرية...) أعرف أعرف يجب أن أهدأ لأتمكن من الحكى.. أنا أحك بدافع الانتقام فى الحقيقة.. ومن الحقيقة التى لا تعرفها سوى الماما..
الماما؟
وجودها هو الشىء الوحيد المؤكد فى حياتى.. والذى يدفعنى نحو الانتحار أو سن السكين.. لا أمل لى للنجاة من براثنها سوى بحكى الحكاية.. لكن أى حكاية.
*****
عندما بدأ القطار فى التوقف فى محطات غريبة، كانت العصابات قد لفت أعيننا، قال أحدهم ساخرا: إن الظلام يجعل القدر أكثر إثارة.. ماذا تتوقع؟ لو كنت محظوظا سيحرمونك من خصيتيك مقابل فرصة أخيرة للتكفير عن ذنبك.
لم أكن اسمع سوى عويل وصراخ واستجداءات يائسة، كنت مرعوبا حقا لا من النار، بل من مصير الخصى، قلت لنفسى: هل سيسمحوا لى بالاختيار؟.. النار تبدو خيارا ملائما.
أراهنك بفازات العالم، إنك ظننت إنى اتحدث عن قطار الموتى، وإنى ذاهب لمحاسبة فورية لكسرى قداسة الأشياء، كنت أظن مثلك ذلك، لكن الماما تسيطر بشكل أو بآخر على الحكاية ولا أعلم يقينا ما إن كان ذلك قطارا نحو جهنم أم لمواصلة الدنيا.. كل ما أفعله هو المقاومة اليائسة لتخرج الحكاية بعيدا عن هيمنتها.
عندما وصلت محطتى، وجدت نفسى أمام قلعة عظيمة يحكمها خفاش ضخم، كنت أعزل إلا  من جراب ماء.
الجنود اختفوا والقطار، تاركا القضبان كأثر، لحقيقة تلونت بسراب مخيف.
قال الماء: لا تفرط فى حكايتك الخرافية، امض وستنتصر إن اتبعت غرائزك بصدق.
كدت أمضى، لكن القلعة كانت سرابا، لم تكن سوى مصنعا لانتاج الفازات.
كان السكارى الثلاثة يرتدون بزات عمل متشابهة، مضوا إلى المصنع ومضيت معهم، لأن الجوع قرصنى، كرهت اللون المتشابه، لم أجد حلا سوى تمزيق الرداء مزقا خفيفا، لم أدرك إنه أكثر جمالا، حاول البعض تقليدى لكنهم شوهوا بزاتهم تماما.
كان عملى بسيطا، أن أجمع قطع الفازات المكسورة، كالبازل، ثم أسلمها لعامل يعيد طلاءها باللون الأحمر لتتشابه.
رغم بساطة عملى صنفت كعامل ضعيف.
كان على إن أجمع القطع التى تصلح للتمازج، لكنى كنت أجمع قطع متنافرة، اراها متمازجة برابط غريب كسراب.
تحملت سخرية كبيرة، شعرت إنى استحقها، عندما تقدم كبير العمال، وجعل عقابى أن أحمل فازة ثلاث ساعات، على قدم واحدة.
تكرار ذلك رغم سخافته نجح تماما فى إشعارى بقداسة ما أهنته بسرابى، حاولت أن أكون منتظما، غيرت بزتى بأخرى بدون قطع، سعيت للتعلم بكل الطرق، سر ذلك التمازج، الذى لم يكن سرا، كنت فقط أملك كل أسباب التشويش على ذلك بسراب التنافر.
لكن ذلك لم يعنى سوى فشلا جديدا، لكن على أى حال لم يخلو الأمر من معجبين ومشفقين، فقد كنت فى أوقات سرية وفارغة من العمل، احاول اختراع شيئا ما بذلك التنافر، كان الأمر شبيها بالاستمناء سرا كمسكن عن مضاجعة تتأخر. مضاجعة حافلة بالمتعة وسكاكين الذنب.
حتى فعلتها يوما، فازة جميلة، بقطع متنافرة بل وقبيحة كانوا يرمونها فى مقالب القمامة.
عندما اكتشفوها، صفق المعجبون وتعاطف المشفقون.
لكن سكير من الثلاثة، رد على الأمر بشخرة قائلا: هل تظن إنك مميز ؟ أنا حاولت من قبل ودفعت الثمن بالعمل مع حمقى.. ثم وشى بى لكبير العمال.
عندما جاء، هددنى بالطرد وبالحرق إن لم أكسر تلك الفازة حالا.. فعلت مبللا بذنب عظيم.. لكن الكسر جعلها أكثر جمالا. وصل الأمر إلى صاحب المصنع الذى قال: ذلك سيعجب الماما.. إنها تفضل المجانين.
ثم طردنى ولم أفهم لم إن كان ذلك سيعجب تلك الماما.
فى فترة عملى سمعت حكايات متناثرة عنها، عن طيبتها البالغة، ودفاعها المستميت عن حقوق العمال، فى الحصول على أجورهم. لكن لم أجد رابطا بين هذا وبين الأثر القاسى  لغضبها.
كنت أعزل إلا من فازة تثير الغضب والإعجاب، وأجرى عن فترة عملى والذى كان قليلا، مع تحية مهذبة من الماما.
عندما نفذ المال، قررت بيع الفازة، مررت بها على كل المحال التى أعرفها، قوبلت برفض، أضاف معنى جديدا لهروبى: الفشل.
لكن أحدهم همس لى على استحياء: لابد أن ترضى الماما.. لم لم تمر عليها أولا؟.
لم يفسر لى ذلك شيئا.
يقولون إن الماما كقطتها، هادئة وناعمة وكسولة، تنام نصف النهار وتأكل نصف الليل وتحبل بلا انقطاع -متى تجد الوقت لكى تملأ كل حكاياتى هكذا- يقولون إن القطة هى نقطة ضعف الماما وقوتها. فهى مثلها تغرى بالهجوم، حينها تتبدل القطة شيطانا يبتلع الأرواح.
إرضاء القطة هو سر كل من تعفو عنهم الماما، لكن متى ترضى أحدا ينام نصف النهار ويأكل نصف الليل ويحبل بلا انقطاع؟.
الممرات إلى العالم أصبحت ضيقة، كخرم عذراء.
لم أجد سوى بيت شلبية، قوادة تملك بيتا كبيرا أعلى التل، وعمرا فوق الخمسين بقليل، وأنوثة مكتنزة: أعطيتها الفازة المكسورة مقابل بنتا مكسورة.
وأنا فى الغرفة، صفعتنى البنت بقولها: أين خصيتيك؟... خرجت من الغرفة وأنا أصرخ.. أما شلبية كانت تضحك وتضحك حتى إنى توقفت تماما عن الصراخ.. ظللت أنظر إليها فى بلاهة فقط.
قالت لى ببرود: لا أحد يغضب الماما.
لكن أى ماما، ومتى أغضبتها؟.
خرجت صامتا، منكس الرأس، لكن ألم شديد باغتنى، كأن يدين شرستين تعتصران خصيتيى، كانا هنا، طوال الوقت إذن؟..
صرخت بقوة: تلك الماما.. لو لم تكن سرابا لكانت شرا.
فيما بعد صار اعتصار خصيتى بديلا عن السكاكين التى كانت تنغز بطنى.
****
هههههههههه...آآآآآآآآآآه ...هههههه.
ذات يوم أشعلت النار فى ذيل قطتها... ولم أعبأ بألمى الهائل.
******
سقطت أشياء كثيرة من ذاكرتى، انتصارات بسيطة ومرضية، دلائلى المادية على إن الماما كائن رقيق يجب نسفه، لم تتبق سوى ومضات تباغت ذهنى مصحوبة بألم فى الخصيتين، ثم تختفى كأن شيئا لم يكن -بصقت، تمردت، شخرت، تشاجرت، وربما أشعلت حروبا ضد الماما، لم يتبق منها سوى آثار غرز، وربما جرحتها أيضا.
فى مدينة بعيدة عن سيطرة الماما، نجحت فى بيع الفازة الأولى لى، توالت بعدها الطلبات، وحققت شهرة لم تخفف ألم خصيتى، أيقنت لسنوات طويلة إنى موهوب، وهو يقين صار كفازة محطمة.
لكن النجاح الحقيقى، بدأ عندما عرفت إن قدرتى على "افساد" الأشياء، لا يقتصر على الفازات بل إلى كل شىء:
الجدران، البيوت، الستائر، الملابس، النفوس، الحيوانات، النظام، القوانين، الهيبة.. كل شىء.
كنت رائعا.. وعندما وجدتنى الماما، كنت أكثر حيطة، فأقراص المسكنات لم تفارق جيبى، فأحبطت حيلة الذنب.
لكن كل شىء تغير، عندما وصلتنى رسالة الماما.. "أنت موهوب.. ونحن نريدك".
ذهبت إلى صاحب المصنع الذى طردنى من قبل.
بدأ بهدوء: مصنعنا تعرض لموجات تغير الأذواق، لقد قاومنا الأمر كثيرا، أنكرناه فى البداية، ثم تجاهلناه، لكن عندما بدأ الأمر فى الضغط على خصية الإدارة لجأنا إلى نصيحة الماما.. التى قادتنا إليك..
سألت متشككا: هل ترغبون حقا فى أن أفسد الفازات؟
قال صاحب المصنع: ليس بالظبط.
قلت بحماس: استطيع تطوير المصنع.. لم يقتصر على الفازات فقط إن كنت استطيع افساد كل شىء؟..
رد باقتضاب: سنتدوال مع الماما.. إنها تعرف كل شىء ونحن نثق بها.
كنت أريد أن أراها، فى شوق بالغ لاكتشاف حقيقتها.
لم تظهر أبدا، لكنها كانت حاضرة فى كل شىء، كنت اتلقى كل صباح ورقة مرسلة منها  بها مهام عملى، كانت رسالة رقيقة تؤكد فيها إن اتباعى ما ذكر فى الرسالة، يقينى شر صاحب المصنع وزملائى.
مع الوقت بدأت فى الاطمئنان، فى حب تلك الماما، التى لم تكن بهذا السوء.. فى إحدى الرسائل اعتذرت عن ايلامى.. قائلة إن الألم كان يصب لصالحى وإن ذلك كان لحمايتى من شر باعة الفازات ومن شر نفسى عندما دلفت إلى بيت شلبية لأضاجع بنتا مكسورة.
لذا فضلت أن افسد لها ورقة المهام، فكنت أنجز ما تريد دون اتباع ما تقوله، كنت مدفوعا برغبتى فى استخدام ما جئت من أجله: افساد الأشياء. فعودتى إلى المصنع لم تشهد أى تغيير، مجرد تدريبات أقسى على مزج قطع الفازات المكسورة، لم يتغير شىء سوى زيادة الراتب، وتربيتات الكتف من صاحب المصنع.
لم أعرف إن ذلك قد يعكر مزاجها، قطيع من القطط هاجم المصنع، ثم ظل يضغط على خصيتى، ويحطم كل ما صنعته.
لم تشفع المسكنات، تلك المرة،كنت تحت قبضتها تماما، عاد الشعور بالذنب بهيمنته البالغة، لم أشك إنها على حق، وإنى استحق العقاب.
حاولت التدرب أكثر واكثر على الطاعة، قبلت ذيل قطتها الشاردة فى أنحاء المصنع، كل يوم، انتهزت كل فرصة للصراخ عن انجازات الماما، وأخلاقها التى لا تقبل الشك أو المماطلة، ولم أعبأ بتلميحات السكارى الجارحة.
لكن الألم لم يخف، لم تصدق طاعتى إذن؟ كانت فقط حيلة مجرد حيلة، رغم الاقرار التام بالذنب، لأقدم خطتى  مكتوبة إلى صاحب المصنع حول تطويره، أول مصنع فى سجادة العالم لافساد الأشياء.
*****
كانت فى شبابها على يسار الرب، تدافع عن أجور العمال وحقوقهم بضراوة، ودفعت ثمن ذلك، عندما اكلت حقوقها، فلم تجد سوى صراخا مستميتا، بلا فاعلية، فانتقلت إلى يمين صاحب المصنع، لتدافع عن حقوق الله والعمال، عندما ادركت إن العمال يسهل استقطابهم لصالحها، إذا ما دافعت بضراوة عن رواتبهم الهزيلة، لأن ذلك كان يجعل ثمنها أعلى فى نظر صاحب المصنع، كما إن الحديث نيابة عن الله يمنحها أجرها وأجر العمال.
ثم وجدت إن أكثر الأمور أمانا، هى التنقل بين يمين الله ويساره، وفقا للظل الذى يصنعه الشمس.
هذا ما أظنه عنها، لا أملك اليقين، أنا فقط أعرف ذلك ببصيرة المذنبين، أمر ينكره العمال، ويؤمن به السكارى.
***
لم أكن أنا من أطلق النكتة الأولى على الماما، لم أكن املك الشجاعة، لكنى أوحيت بها، عندما كنت اتسلم ورقة مهامى كل يوم، كنت افسد بندا صغيرا تافها به، لا يكاد يلحظ، عبرت الحيلة على الماما وعلى صاحب المصنع، مع الأيام عدت لافساد ورقة المهام كلها دون أن يشعر أحد.
لكن العمال عرفوا، أدركوا مع الوقت صنيعة يدى، وأطلق أحد السكارى، نكتة، نكتة واحدة، ضعيفة وهشة، لكنها جعلتنا نستهزأ بهجوم القطط، واستطعنا اشعال النيران فى ذيولها، نيران هائلة من الضحك.
تزايدت النكات، وضعفت هيبة الماما، بدأ العمال فى افساد بنود صغيرة تافهة فى مهام العمل، ثم مع الوقت عرفوا كيف ينجزون المهام على طريقتهم لا طريقة الماما.
صار العمل ممتعا، حتى إنى فى لحظة قررت أن أهب المصنع حياتى، ونذرت نفسى لافساده.
للمرة الأولى، رأيت الماما، لم تكن غاضبة، بل هادئة تماما.. كانت قبيحة جدا وشائخة كفازات أبى، وبطنها منتفخة من حمل جديد.
كانت على يمين صاحب المصنع، عندما رمقتنى وقالت بهدوء: غبى.
تحملت، رغم غرقى التام فى ماء الذنب، وقدمت لصاحب المصنع خطتى لتطوير مصنعه: كانت خطة كاملة، محبوكة، بسيطة، عبقرية.. وضعت فيها خلاصة ما منحتنى إياه الموهبة، وعلمتنى إياه الخبرة.. شرحت له كيف سيجنى مئات الملايين من الجنيهات، وتفرد مصنعه فى الافساد.
قال صاحب المصنع للماما ببرود: القطار ينتظرك فى الخارج.. اعتقد إن الوقت حان.
وجدت نفسى على يسار العمال وعلى يمين صاحب المصنع.. وقفت فوق منبر عال لأطرطر على الخلق بقذارات كثيرة عن  أهمية الأخلاق وأوجه القطط للضغط على خصى العمال.
منحنى صاحب المصنع  كل شىء، وصار لى فراش دافىء وزوجة وعمل مستقر، واختفى ألم الذنب تماما إلا من ومضات بسيطة تباغتنى عن قلعة كبيرة يحكمها خفاش ضخم وجراب ماء يتفلسف على فى صحراء بلا حكاية محتملة سوى الموت.. "لا أمل فى نجاتك سوى فى حكاية خرافية......"..
لكنى لم أصدق سراب الماء فالسراب يضعف هيبة الماما، وفضلت على ذلك أن أنام نصف النهار وأن أأكل نصف الليل وأن أحبل بلا انقطاع.



وهبة
انتهى من الساندوتش واقفا على ثلاث قضمات، ثم اتجه إلى محل عصير القصب، المواجه له، جنيها آخر طار، شرب، تجشأ، فكر إن كان قد بسمل قبل الأكل، ينسى كل مرة، حتى فى حياته السابقة، كان ينسى. 
توجه إلى بنسيون فقير، معزول، لاعداد خطته بشأن فرصته الثانية للحياة، يذكره الأمر بخروج زميله نور الشريف من السجن فى فيلم كتيبة الإعدام، مفلسا، محاصرا بوصمة الخيانة، أعجبه الأمر، كان يتمنى أن يلعب هذا الدور، نصف فرصة فى بطولة، لقد أهدروا ما يملك من وسامة، موهبة، فى لا شىء، ضابط يكافح المخدارت، أو مجرم يتاجر بها، حتى حياته جعلوها كذلك: كان يحب المخدرات، وعليه أن يتحدث عن كرهها فى الأحاديث الصحفية، عن خطورتها على أخلاق المجتمع، لم يعرف أحد أنه مثل هاملت، وبهر النقاد بأدائه فى فيلم إيطالى، وأجبر الخواجات على التحدث عن الموهبة التى فركتها الطاحونة فى مصر، وبرر للنقاد المصريين التفاخر:
"هذا هو الممثل المصرى، فقط لو أتيحت له الفرصة سيجعل من حوله يشعرون بضآلتهم".
طحنوه، فغلف نفسه بكبرياء يصعق من يقترب منه، مشهرا كرامته وتعاليه كمطواة فى كل مناسبة، انتقامه الخاص، حتى شلة المخدرات من الممثلين، لم يعفهم من احتقاره لهم، لكنهم كانوا يعرفون طيبة قلبه المختبئة كلؤلؤة  لم يكن يكشفها الا عند نقطة النشوة التى يصل إليها عبر المخدر.
لم يتعرف عليه أحد فى البنسيون، فقد كثيرا من وسامته، أصبح أقصر بكرش ضخم يتقدمه وزبيبة صلاة ولحية، أصر القائمون على الأمر على تنكره فى تلك الهيئة: إن حاولت تغييرها، ستموت ثانية.
يعذرهم  وهبة، لا يجب أن ينتشر بين العامة: أن عودة الموتى أمر ممكن، لا تتعلق هيئته السنية بإجادة التدين، بقدر إجادة التنكر.
شىء واحد كان يضايقه بشأن هيئته الجديدة، لم يكن مثبتا بشكل جيد، أطراف مفككة، قد تقع منه فى أى وقت، رأسه وقعت ذات مرة فى مشهد فضيحة، كادت قطة أن تأكل ذكره، عندما سقط أسفل طاولة مقهى، ساعده طفل على ثبيت ساقه اليسرى.
الزمن تغير، قال وهبة لنفسه. كان الناس سيصدمون حقا، من مشهد كهذا فى حياته السابقة، لكنهم تعاملوا مع الأمر بعادية أزعجته، ثمة شىء مقتول فى هذا العالم، كيف يؤسس لحياة جديدة فى عالم كهذا.
عندما أغلق باب حجرته عليه، قرر أنه لن يستسلم للكسل، وسيسلم خطته للحياة، للقائمين على الأمر، كان "الديد لاين" الذى حددوه له قد اقترب، لم يكن يفكر طيلة ثلاث شهور مضت سوى فى البحر، كلما جلس وبدأ فى كتابة خطته، متحاشيا المحظورات الثلاث: التمثيل، المخدرات،.. وال... لم يخبروه بالثالثة، تركوها له كفخ.
بدأ فى الكتابة، لكن لا شىء سوى البحر، القلم يتحرك من تلقاء نفسه، سود صفحات كثيرة لا تحمل سوى كلمة البحر، ظل على هذا الحال، حتى شعر بدوار، ثم ميل قاتل إلى النوم، ميل يرعبه، فهو يعنى العودة إلى الموت مرة أخرى.
قبل أن يسقط نائما، واتته الفكرة اللامعة: لا فكاك من البحر.
-----
سناء
ثمة أشياء كثيرة تميز المقدم سناء، فهى عانس، قوية، تملك صوتا ذكوريا، وجسد مصارع رومانى، خشنة، سليطة اللسان، وحيدة، لا تعرف اللوع، يخشاها الرجال والنساء والأطفال والديناصورات، لا تتوانى عن اهانة شخص ترغب فى تقويمه، تكنيك  الشلوت  ودفع الكتف بقوة ثم الضرب بسيف اليد على الظهر هو شعارها، لا تفضل الصفع، فهى تعرف القواعد: المؤخرات مباحة، لكن الوجوه قد تدفع الآخرين للتساؤل بشأن أحقيتها فى استخدام ما يميزها.
لكن الشىء الذى يميزها حقا وتحب أن تعرف به: أنها على بعد خطوات من وزارة الدفاع، لا ترتدى البيريه، بشجاعة لا يملكها لواءات كبار، لواءات قد يتعثرون فى كروشهم اثناء الجرى، حتى لا يراهم المشير، اذا قرر أن يزور المستشفى القريبة من مكتبه.
فى مستشفى القوات المسلحة، تفكر فى آلية جديدة لليوم الاسثتنائى الذى يتكرر مرة   كل ست أشهر، ستقابل اليوم دفعة جنود جديدة من الصيادلة، لا طقوس خاصة لسناء، لا تقرأ الأدعية، لا تذهب مبكرا عن موعدها، الطقس الوحيد ربما هو التفكير فى آلية تحميها من أى مفاجآة ما، عبر  ثلاثة عشر سنة فى منصبها ككبير للصيادلة فى مستشفى القوات المسلحة، وثلاثون عاما فى الجيش، بعد أن انتهت من دراسة الصيدلة، كان كل شىء يصب فى صالح أنها لا تحتاج إلى آلية جديدة، فقد مر عليها كل شىء: الهادىء، والمتمرد، والغاضب، والمتعالى، والمتملق، والمتكيف، والقابل لعقد صفقة لانقاذ مؤخرته... تملك طريقة لا تخيب لكل حالة.
لكن ثمة شىء ما ينخر روحها، ماذا لو مر عليها ما لم تعرفه، ما لم تصنفه تحت اسم، ما لا تعرف كيف تضعه فى المفرمة، سواء باهانته او باحتواءه.
جاءتها الدفعة الجديدة، كانت على عكس ما توقعت، تحرر منها اليوم: عشرون جنديا، ولم يرسلوا لها سوى خمسة فقط، كانت اعتادت أن لا يقل عدد من يقعوا تحت أسرها عن من تحرروا بلبس الملكى، على الأقل ليس بهذا الشكل.
 اعتادت أن تترك الدفعة  المستجدة يومين أو ثلاث قبل أن تقابلهم، كى يسمعوا عنها أساطير الرعب والدم، التى حرصت على دعمها.
لكن ذلك اليوم، قررت أن تبادرهم برؤيتهم مبكرا، عليها أن تسد العجز، بسرعة، على الخمسة أن يتحملوا عمل عشرين صيدلانيا.
اصطف الخمسة، قرأت ثلاثة منهم بلا مجهود: أولهم لئيم، قادر على التمرد إذا شعر بالضعف، ثانيهم مستسلم لأى اهانة محتملة لذا لن تتورع عن ايذاءه طيلة الوقت فهو غنيمة مجانية، الثالث كرامته منتصبة كقضيب يجب كسره، أجلت استكشافها للمجندين الباقيين.
كل الطرق تؤدى إلى ما تريد، لم يكن سؤالها بأى ضحية تبدأ، لكن عينيها كانت تبحث عن حبيبها، المجند السنوى، الذى ستمنحه كل حنان ممكن، تفضله بغشم على الآخرين، تمنحه الرحمة، ينجز أكثر المهام انسانية وراحة، مسامرها وقت الضيق والتبسط، كان عليها أن تجده من هؤلاء الخمسة، فقد تحرر حبيبها الأخير، ارتدى الملكى بزهو ورحل دون أن يلقى عليها ولو نظرة وداع واحدة، رغم أنها عاملته كابن حقيقى، وشاركته صينية محشى، تتميز فى صنعه.
لم تجد حبيبها فى أى من الخمسة، بغضب مكتوم، أمسكت بياقة بالطو المجند الخامس، كان الأقرب وهى تخطب خطبة ما، دفعته من ياقته، وأشعلت ردهة مكتبها، التى ستقابل فيها تلك الوجوه العكرة كل صباح لمدة سنة كاملة، انسكب فمها بالسباب "يا متناك.. يا خول.. يا شرموط...."، عشرة دقائق كاملة من اهانات بدا أنها لن تتوقف.
ثم توقفت.. لسبب ما توقفت، لم يكن هناك شي واضح يمكن امساكه لتبرر لنفسها تأملها فى عينيى المجند الخامس، لم يكن حبيبها الذى تبحث عنه، ابنها الذى ستكشف له الحنان، لكنه كان أملا ساطعا لإمكانية حل اللغز: البحث عن آلية جديدة، لم تتبعها مع أى مجند آخر، هذا المجند: اكتشاف، اثبات لأنها لم تعرف شيئا بعد عن كل شىء، تحد سيجعل السنة القادمة ألطف وأصعب.
ابتسمت، أمرتهم بالانصراف بعد أن وزعتهم على الصيدليات مع ضباطهم المذعورين، ثم جلست على مكتبها، حكت كسها، منذ زمن لم يعد يعنيها ما يخفيه المكتب، لو رآها المشير نفسه لن تكسر عينيها لأجل خاطره، فتحت البرقية التى جاءتها صباحا دون تعريف بمرسلها تأملت العبارة مرة أخرى: لا فكاك من البحر.
ألقتها باستهانة فى سلة المهملات، وبدأت تفكر فى المتعة المنتظرة والقلق القادم.
-----
سعيد
لم يعرف متى أصيب بشهوة الكلام، الشهوة التى سعرت الجحيم من حوله.
بسببها، أجبرته المحكمة على خلع زوجته، هرب أولاده إلى دول بعيدة، لفظه أصدقاؤه، أحالته الشركة التى يعمل بها إلى المعاش قبل استحقاقه بعشر سنوات.
سعيد، لم يكن كذلك، لم يكن صموتا، كان متكلما عاديا، يتكلم مثل الآخرين تماما، ينم عند النميمة، يصمت عندما  يكلفه الكلام ثمنا ما، يواسى فى العزاءات مدعيا الحزن، لا يفوت "يرحمكم الله" أو "يهديكم ويصلح بالكم" عند العطس، يهنىء فى الأفراح، يتحدث منافقا ومتملقا فى المواضع التى تستوجب ذلك، يسب بالدين عند الغضب.
لكن كل شىء تغير، فى لحظة، لم يعد قادرا على التوقف عن الكلام أكثر من دقيقة وصلت بالتمرينات إلى دقيقة ونصف، كان كمن يحاول حبس أنفاسه تحت الماء.
يحاول أن  يتذكر هذا اليوم، كان يوما مؤهلا للمرور بسلام، أنهى عمله فى الثانية ظهرا، دون أى نذر بالخطر، يتساءل فقط، إن كان الأمر متعلق بذنب ما، يراجع كل تفصيلة فى هذا اليوم، لا شىء استثنائى، حتى اشتهاءه لأكلة ممبار خارج البيت لا يمكن التعويل عليها.
فى الرابعة عصرا، موعد قيلولته حتى صلاة المغرب، عرف أن عهد التعسيلة قد ولى إلى غير رجعة، وبدأ عهد الكلام، جمع زوجته وولديه، كانوا ينتظرون أمرا ما أو لوم على تقصير وفق عاداته فى الحديث، لكنه سألهم عن الطقس، كأنه لم يسمع الإجابة واصل حديثه عن التغيرات المناخية، ذكر معلومات أذهلتهم بشأن الأمر، هو الذى لم يقرأ يوما كتابا أو جريدة، من الطقس فتح معبرا للحديث، عن كارل أوف، وكيف كتب كارمينا بورانا، هو الذى لم يستمع طيلة حياته إلا إلى أم كلثوم ويرى ما عداها ضربا من الكفر والتعالى والميوعة.
من الرابعة عصرا، حتى الرابعة فجرا وهو يتحدث، كل يوم معهم، ينام وهو يكمل رواية التاريخ وآرائه بشأنه، من أى مدخل: الطقس، كرة القدم، فساء أطلقته العائلة، طبيخ الزوجة، لم يجد حرجا أن يتحدث عن حيضها، وفتح ملف سرتنة ولديه السرية بتسامح أزعجهم، فلم يكن الأمر بالنسبة له سوى مدخل للحديث عن أى شىء عبر كل شىء، من مغامراته الجنسية صغيرا، وطول قضيبه، والأوضاع التى تفضلها زوجته، تجربته للخشن ذات مرة، شعور ابنه الأكبر بالنقص، أنانية الأصغر وهوسه بذاته، وجد مدخلا للحديث، حول حياتهم إلى جحيم.
يصحو فى موعده بالسابعة، لا يكف عن ايجاد مداخل للحديث مع زملاؤه فى العمل، من فسادهم، من أسرارهم التى ظنوا أن اخفاؤها سيجعلهم أكثر احتراما، نميمتهم، من تنبيه مديره فى العمل، واصل حكاياته، معلوماته التى لا تنتهى، متخذا من التنبيه مدخلا لا أكثر، للتحدث عن معلومات مذكورة فى كتاب ما عن أن عبد الناصر كان جاسوسا إسرائيليا، لم تكن المعلومة صحيحة، لكنها ذكرت فى كتاب ما، لم يقرأه.
لم يخبر أحدا أن الرؤية صارت أكثر وضوحا، ثمة مكتبة كونية تتفتح صفحاتها أمام عينيه، تتقلب من مقطع فى كتاب إلى آخر بسرعة البرق، أنه وسيط روحانى لسيرة الإنسان، الحقيقية والمتوهمة.
المدير، استطاع أن يجد نقطة ما تحت بند "الاهمال الوظيفى" متغافلا عن المعجزة الكبرى المتجسدة فى سعيد، لتصعيد الأمر وتخييره بين الفصل والمعاش المبكر، وقع سعيد أوراق المعاش، وهو يتحدث عن أهمية اللحظة التى قال فيها جاليليو هامسا، عقب تراجعه عن رأيه ارضاء للكنيسة: "لكنها تدور"، وعن أن اخناتون لم يكن سوى النبى ابراهيم، والد الديانات السماوية الثلاث، التى حولها البشر إلى عقبات ثلاث.
لم تتحمل زوجته، التى خططت كل شىء، خلعه وطريقة سفرها مع ولديها إلى كندا عند خالتهم، لبدء حياة جديدة، بها كلام أقل.
لم ينجح الجيران فى طرده من العمارة، عندما بدأ فى الطرق على أبوابهم، للحديث، لكنهم صعدوا الأمر، اتفقوا على تكنيك واحد بعد مداولات استغرقت أشهر: اقذفوه بما تيسر، زجاجة ماء، كولا، كرسى، صفيحة زبالة... كان على الرسالة أن تكون واضحة إلى هذا الحد، كى يعود أدراجه.
لكن سعيد توصل إلى حيلة عندما أدرك أنه فى حاجة إلى مستمعين متجددين، لن يتمكنوا من الفرار، كما أن تعذيبهم مرتبط بمدة، سيكونوا أحرارا بعدها، أعجبته الصفقة العادلة، لذا تخير المواصلات، يركب مواصلة إثر أخرى: ميكروباص، ترام، قطار، أتوبيس، مترو، ويبدأ فى التحدث إلى العابرين، مع الوقت كون خبرة فى اختيار ضحاياه المستعدين للاستماع قبل أن يدركوا أى رمال متحركة قد غاصوا فيها، عبر عبارة يقذفها كبالونة اختبار متخذا نفس التقنية الأولى: الطقس، كرة القدم، فساء أطلقه الركاب، ليتحدث عن كل شىء عبر كل شىء، جاب مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها متحدثا.
لا يعرف إن كان المستمعين العابرين، هم من ألهموه أن يبدل وظيفته فى كل مرة، ليصبح موجودا فى الأحداث كبطل أو كشاهد، أو على الأقل إن لم يكن قد عاصر تلك الأشياء، أن يصبغ على نفسه صفة تقنع الآخرين بثقافته وأهليته لما يتحدث عنه: سفير، طيار، عالم،.. أى شىء الا كونه مجرد موظف، قبل أن ينتقل إلى درجة أعلى كمونتير  لسيرة الإنسان، بما يخلق آلاف السير المحتملة، التى طمسها النسق.
كل شىء استقر فى حياة سعيد بسلام مرة أخرى، لكن أثناء حديثه إلى عابر بجواره، توقف فجأة عن الكلام، كانت كتب المكتبة الكونية التى يقرأ عبرها حكاية الكون، قافزا من مقطع إلى آخر، تقفز من رفوفها فى هلع، خوفا من كتاب ضخم، يطاردها بتلعها الواحدة تلو الأخرى، كقاتل محترف.
صمت سعيد، لم يعد إلى الحديث، الا بعد سنة، لم يقل سوى العبارة الوحيدة التى سودت صفحات الكتاب الوحيد والضخم: لا فكاك من البحر.
ظل سعيد يكررها فى كل لحظة، أرسلها إلى زوجته السابقة وأولاده  فى برقية فعادا، أرسل برقيات أخرى، خاطب بها المسئولين، فأعادوه إلى وظيفته، أرسل الآلاف منها إلى كل جهة، نصب له الجيران مصطبة أمام البيت، ليستمعوا فى نشوة وترقب للعبارة الوحيدة التى لا تتغير: لا فكاك من البحر.
----
يمنى
قالت يمنى لوهبة: متى تتوقع انتهاء العمل؟
نظر لها معاتبا: لو توقفنا عن السؤال، واستمر الإخلاص.
واصلا سكب البحر فى فناجين وجرادل بلاستيك. لم يلتفت لعينيها الواقعتين فى الغرام.
عندما رأت ذلك المجذوب، يحاول أن يفرغ البحر عبر فنجان صغير، عرفته رغم كل الحجب: الكرش، الزبيبة، الجلباب، اللحية الكثيفة، انه فتى أحلامها العابر، وهبة الوسيم، الذى تخلل السينما بمشاهد لم يكن بطلها، وان كان محركها، الذى مات قبل أن يغزو رأسه الشيب، وحيويته الترهل، من امتلك القوة للخروج على القانون، والضعف ليشيد بأهميته.
كانت فى أجازة للاستشفاء من اعياء مقيم، انتهى إلى بثور غزت جسدها الضعيف، وكابوس يطاردها: كانت تحلم بأنها تقتل، لم يكن ذلك ما يفزعها، فرم شخص فى خلاط ضخم، الرقص ببلدوزر فوق جسده، إذابته فى حامض، ما يفزعها هى تلك الحيرة التى تنتابها لاخفاء معالم جريمتها، دائما ما ينتهى الأمر بخطأ، خطأ واحد يفضح كل شىء، يدل عليها، تقوم فزعة تتحسس رقبتها، "من يرغب مخلصا فى القتل، عليه أن يكون مدربا على اخفاء أثره"، نصيحة وهبة الأصلى.
كانت تنجذب دوما إلى مقلديه، تعرفهم دون جهد، جاذبية يضاعفها الجنون، يشيرون إلى خطأ ما فى الزمن، ينتظرون شيئا ما لم يجىء، ما يجذبها  كل هذا الضعف، الاعياء الأخير، كان سببه واحدا منهم، يردد دوما أننا نستطيع بقليل من الجهد العودة إلى  "أربعينات القرن الماضى"، حيث كل شىء كان نقيا وطاهرا، الأثر الذى توقف مع بداية السبعينات، عندما انهار كل شىء فجأة، ولم يعد الزمن سوى لغز، يجب ايقافه، لم تحمل له ضغينة، كانت تعلم أن انتقامه منها، يريحه، يسخر من محاولاتها فى اخراج أفلام قصيرة، يعدل لها كل خطوة، لا يقبل جدلها، لا يقع فى خطأ، مذنبة على الدوام، يخبرها عن صحيح الأشياء، وشروح ومتن شريعة صحيح الأشياء، رفض أن تشاركه مشروعه عن فيلم وثائقى عن حياة  وهبة، المشروع الذى لم يتمه أبدا، منتظرا "كماله" الذى لم يتم، وان كان منحه حضورا وبطاقة تعريف "الرجل الذى يعد فيلما عن  وهبة، منذ عام.. منذ عشرة أعوام.. منذ... "، تحدث عنه فى أحاديث صحفية نادرة كمتخصص.
تركته، جاءها بوجه ضعيف ومتسامح، أخبرها: أن هناك اشتباه فى اصابته بالسرطان، وأن هجرانها له قد فاقم حالته، كانت أفضل ليلة نام فيها معها، المرة الأولى التى لا يشعر فيها بغصة أن تسيطر هى على كل شىء، أن يترك نفسه لجسدها، ليعطيها كما لم يعط من قبل.
بعد فترة عاد أقسى مما كان، غاضبا، ناقما من كل شىء، عرفت منه أن نتيجة التحاليل أثبتت أنه ليس مصابا بالسرطان، لم يكن سعيدا، بدا لها كمن كان يتمنى أن يكون مصابا فعلا، أن يتجه إلى موت كارثى، قبل أن يدب الشيب فى رأسه وتترهل حيويته، ردت على غضبه تلك المرة ببرود، انتهى  إلى قطع علاقتها به تماما عندما عاتبها" لم أعد استحق العطف حتى، لأنى لست مريضا بالسرطان.. أليس كذلك؟".
ظلت تعالج من أثره عام كامل لدى طبيب نفسى، ظنا أنها شفيت، لكن البثور التى غزت جسدها، سقوطها من الاعياء بعد أقل مجهود، كوابيس اكتشاف جريمتها باعدام شخص معلقا من خصيتيه، جعلوها تبتعد فى أجازة على البحر.
وهبة كان قليل الكلام، أكثر حنوا من حبيبها السابق، وان لم يكن أقل صرامة، لم يعترض عندما حاولت مساعدته فى سكب البحر فى فناجين قهوة، بل وربت على كتفها مشجعا عندما اشترت الجرادل البلاستيك، التى يلهو بها الأطفال على البحر.
عندما أتى ثلاثة أشخاص،عرف وهبة أنهم من القائمين على أمر عودته للحياة، للتأكد من خطته بشأن فرصته الثانية، أخرج لهم رزمة ضخمة من الأوراق، أعد فيها خطة ضخمة تحت عنوان: لا فكاك من البحر.
قلبوا الأوراق، نظروا إلى بعضهم مندهشين.
طالبوه أن يأتى معهم بهدوء، أغروه بكفن جميل وجديد، بدلا من الذى اهترىء، لكنه أشار إلى يمنى المنهمكة فى ملىء الفناجين والجرادل بماء البحر، كان وهبة يعلم القانون: حياته مرهونة باقناع شخص على الأقل.
لم يماطلوه، كانت يمنى تفعل كل شىء باخلاص وباختيار تام، ليس بامكانهم سلبها ذلك، قال أحدهم بحنق: سنعود.
قرر الثلاثة أن المشوار لا ينبغى أن يذهب هدرا، أخرج أحدهم عوامة ورش زميليه  بالماء، قبل أن يبدأ محاولاته المضحكة فى العوم.
دفن أحدهم جسده فى الرمل، عدا رأسه، ودفن الثالث رأسه عدا جسده، ليبدوان كما لو كأن رأسا يحتضن جسدا مفصولا عنه، طلبا من يمنى أن تلتقط لهما صورة.
تأملاها فى بهجة قبل أن يسأل أحدهما الآخر: هل تصدق حقا أنه لا فكاك من البحر؟، رد زميله: لا أدرى.. لا أفهم تلك العبارة أصلا.. نسيا الأمر، طالبا زميلهما بالخروج من البحر، حتى لا يتأخروا على موعد عودتهم، لكنه تجاهلهما، قررا  أن يحفر نفقا فى الرمال إلى الصين  ازجاء للوقت حتى يخرج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق