الثلاثاء، 31 مارس 2015

الأميرة والمرايات


الأميرة والمرايات

زمان..  زمان قوى.. كان فيه قصر  كبير.. كبير جدا،  مصنوع كله من المرايات، بيبانه وحيطانه، سقفه وأرضياته، حتى شبابيكه وبلكوناته كانت برضه مصنوعة من المرايات، اللى  دائما كانت بتعكس شكل وروح اللى ساكنينه أو حتى بيدخلوه ولو مجرد ضيوف.. القصر دا، كانت سكناه أميرة صغيرة وجميلة.. معاها أمها وأبوها واخواتها، صبيان وبنات وعندها خدمها وحشمها ، سواقينها وبوابينها ، وليها صاحباتها الأميرات وزميلاتها من الدراسة وبعدها من الشغل.. لكن رغم كل الزحمة ده اللى كانت مالية حياتها وقصرها، كانت حاسة دائما فى دنيتها بالغربة وعمر ما مرايات القصر عكست على وشها الدفا أو حسستها بيه..
الأميرة ماكانتش زى أميرات الحواديت والحكايات - اللى دايما كانت بتحكى لنا عنهم جداتنا الطيبات واحنا ملمومين تحت سما الصيف  أو نايمين تحت بطاطين الشتا وإلحفته- طيبة..  لكن كمان ماكانتش شريرة أو على الأقل اللى كان بينعكس من هيئتها وروحها على مرايات القصر كصور مش شر خالص/ نقى.. لكن متعاص براءة ويمكن رحمة كمان.. فى الحقيقة مرايات القصر كانت خالقة لها مشكلة جواها وجوانا، هى ماكانتش بتحب تشوف الجزء من روحها اللى مش طيب "ولا احنا بالقطع"، واللى دايما كان بينعكس وبيبقى واضح كل ما تعدى من قدام حيطة أو تدوس على أرضية أو تخبط عينيها فى سقف غير سما ربنا وهى جوا القصر.. هى ماكانتش عارفه هل حتة الشر ده جواها والمرايات بس بتظهرها يعنى مجرد وسيط ولا هى أصلا من خلق المرايات وصنعها، فكانت دائما تحاول تهرب من قصرها أبو المرايات وحتة الشر اللى جواها أو جواه لجنينة صغيرة جدا بالنسبة لقصر مرمية  على طرفه فى مساحة صغيرة جدا  برا  القصرالكبير.. هناك كانت بتظهر أكتر وبتغلب عليها الحتة الطيبة اللى ربنا فى لحظة رضا -عليها أو على البشر- زرعها  فيها أو احنا كنا بنحاول نصدق دا، كانت بتقدر تمحى أو تخفى جزءها الشرير اللى المرايات بتظهره أو بتخلقه وتدهن وشها وتصرفاتها بيه جوا القصر.. خاصة لما تشوف صاحبتها الأميرات لابسين فساتين جديدة أو لما زميلاتها فى الشغل يقدموا مقترحات مفيدة أو لما تناقش مع أمها تفاصيل تخص ترتيبات داخل القصر هيكون لها دور – ولو صغير- فى تنفيذ بعضها ، الأمر  اللى بدأ يلاحظه كل سكان القصر وزواره وخدمه وحشمه وبدأ يعمل لها مشكلة كبيرة..
فى الجنينة كانت بتحاول تسيب نفسها  حرة يمكن تبقى جزء من الطبيعة ده، تجرى بين الأشجار، تلعب وسط الأزهار والخضرة "فى الحقيقة الجنينة هنا كانت محرومة ومحرم عليها دخول الطيور لذلك مش هتظهر فى حكايتنا ولا هتشاغل أميرتنا بألوانها وأصواتها "، وهناك تقابل فراشاتها اللى تقريبا بقت عارفاهم بالاسم، وعارفاهم بالشكل، واللى دايما كانوا بيستنوها فى الجنينة كل يوم فى ميعاد خروجها علشان يلعبوا معاها ألعاب تناسب فراشات وأميرة... ودا كان بيبسطها جدا ويسبب لها سعادة كبيرة تغطى مساحة مش قليلة من الحزن اللى مدهونة بيه دنيتها..
الحياة كانت ماشية طبيعية زى أى حياة رغم القصر والمرايات، وهادية زى أى حياة رغم الشر اللى بيهرب غصب عنها من جواها وينعكس صور فى المرايات، وفيها شوية متعة زى أى حياة بتعيشها أميرة عندها خدمها وحشمها... لكن فى يوم – مش فاكرين بالظبط هى كانت فى الجنينة ولا فى القصر- جالها الشيطان فى صورة فكرة، فقالت لنفسها:
يا ترى هيكون إيه شكل الجنينة لو ظهرت من خلال مرايه؟!.. إيه اللى مزروع جوا الأشجار والأزهار والفراشات؟.. يا ترى هى كمان ساكنها شر مانع ظهوره عدم وجود مرايات؟..  ولا الجنينة من غير شر أصلا لأنها طول عمرها ماتعرفش يعنى إيه  حيطان؟ يعنى إيه أسوار؟
الفكرة خدتها لبعيد، فأصبح عندها خطة، قررت تنفذ وتشوف اللى هيحصل
- اللى ماسبقش إنه اتصور من النفوس والأرواح والأجساد لازم تعكسه مرايه.
فى اليوم دا.. هى صحيت الصبح بدرى.. خلعت أول باب قابلها فى طريقها اللى هو فى الحقيقة كان مرايه كبيرة تعكس كون كامل.. وشالته واتحركت بيه، ماتعرفش ليه ساعتها لما انعكست صورتها فى المرايه شافت شكل للشر أسوأ من كل شر قابلته قبل كدا، يمكن لأنها كانت عارفه إن اللى هيحصل هيغير كل اللى فى الجنينة ويموّت نفوس، ويمكن كمان لأنها كانت عايزة تكشف للفراشات والأزهار والأشجار إن هما كمان جواهم شر فتستريح من شرها ويعذروها لو يوم اكتشفوا نقطة الضعف ده عندها.. المهم .. اتحركت بالباب.. عشرات المرايات اللى عكست الصورة استغربوا.. عشرات الأبواب اللى فتحتهم وقفلتهم وراها وهى بتعدى استعجبوا.. لكن آخر باب مش بس استعجب لكن كمان نطق وقال لها..
- استنى انتِ رايحة فين؟!!.. دا باب فى قصر.. مش مفروض يطلع لجنينة، كدا دنيتك هتتلخبط ، كدا مش هتعرفى الصورة من الأصل.. كدا انتِ بتخلقى الفوضى وتضيّعى المرايات..
كان الإحساس دا عندها واضح.. الكلام فاهماه،  نفس المنطق كان مسيطر عليها ومصدقاه.. عارفه إنها بتخلط عالمين مش لازم ومش ممكن يتعايشوا لو اختلطوا.. لكن الرغبة، الشهوة، غواية التجربة، ويمكن وسوسة الشيطان.. كل دا كان بيدفعها ويسوق رجليها.. علشان كدا..  سدت ودانها عن كلامه.. بعدت عينيها عن طريقه وزقته بالرجل وعدت..
الباب (المظلوم) بهرته الشمس.. اللى وصله نورودفا منها غير أى نورأو دفا صناعى قابله فى حياته.. بهرته الخضرة.. اللى كانت حية ونضرة أكتر من أى حياة أو نضارة قابلهم فى حياته.. حتى الهوا فى الجنينة كان له ريحة وطعم غير أى هوا شمه أو داقه باب فى قصر.. لذلك بدأ يعكس كل اللى قابله بصورة مبهرة، أضواء وألوان، حركة ونشاط.... كل التفاصيل حتى اللى منها كان وهو باب فى قصر مش ممكن ومش محتمل ومش منطقى إنه يعكسه..
الجنينة كلها استغربت جدا وتاه عقلها لما شافت الصورة المعكوسة، الأشجار والأزهار  اللى عمرها ما اتخيلت أو اتصورت  تشوف نفسها، اتمايلت وانحنت واتحركت، كان ناقص تقوم تمشى، تتخلى عن جذورها علشان تتابع صورها اللى ماشية -من غير جذور- فى المرايه، الفراشات اتلمت حوالين الباب.. كأنه شمعة  من اللى تملّى تتحرق بنارها ، اتجننت وهى بتشوف توائم لها بتتخلق وتتولد فجأة وتظهر للوجود من غير تعب ولا شرانق.. فاندفعت بكل قوتها باتجاه توائمها تتخبط وتقع قتيلة نور...  الوضع كان أكتر من خرافى.. كان أكتر من أسطورى.. كان أكتر من جنون وجنان..  أشجار وأزهار بتتخلى عن جذورها أو بتحاول، ودم فراشات مغطى مساحة ضيقة جدا جوا قصر كانت من شوية بس جنينة بتشغى بالحياة والفرح والبهجة.
معلش استنوا عليّا شوية.. الصور هنا كانت ملتبسة، الحالة كانت كابوسية، اللخبطة والدهشة والألوان اللى بتتداخل وتختلط،  و العوالم اللى بتتخلّق وتختفى كانت أكبر من إن أى عقل حتى عقلى أنا يستحملها أو يتصورها أو حتى يحلم بيها.. علشان كدا أنا نَفْسى اللى كنت بحاول أخلق الصورة أو أرسمها  أو بشكل أكتر دقة أفهم الصورة ده وأنقلها، عندى حيرة شديدة، محتار ومتلخبط زى الباب، زى الفراشات، زى الجنينة بأشجارها وأزهارها حتى بنور شمسها الدافى، ويمكن كمان زى القصر اللى بقى هو كمان ناقص باب أو ناقص مرايه.. لكن المهم إن وسط كل دا، هى كانت واقفة وبتراقب، ملاحظة ومش مندهشة ومش مستغربة ومش حزينة أو سعيدة.. لكن النشوة والرغبة لسه غلباها، فكانت صورتها اللى منعكسة فى المرايه بتعكس حالة من الشر أنا بس اللى كنت عارف من يوم ما اتولدت  إن هى ده الصورة الحقيقية للأميرة واللى هتقدر تشوفها بقلبك – اللى بيعشق فى كل الحكايات الأميرة واللى بيحلم فى كل الحكايات بالأميرة-  حتى من غير المرايات.

الأحد، 1 مارس 2015

السيدة


السيدة

سيدة  تعشق الحكايات، ترتاد مقاهى المشردين والتائهين فى صحراء الدنيا، تجمع ما تناثر من رواياتهم وتحاول قدر استطاعتها هدايتهم إلى خيام المضيفين.. حيث الغذاء والدفء والسمر الليلى والحكايات.. سيدة  ليست هى التلميدة التى تسند كتبها إلى صدرها لتحميه من نظرات المفترسين المشتهين، ولا هى المرأة التى حين تظلم عليها الدنيا مساءً تكون سريراً لرجل واحد أبداً لا يتغير.. سيدة  تفكر دائما فى المشردين والتائهين فى الصحراء.. منذ تخلفت عن الركب ذات مرة، وصارت وحيدة تشارك ذرات الرمال ضياع الصحراء وعطشها..  يومها، مر فارسها، ركب خلفها أو أركبها أمامه، وأوصلها لشط الأمان، يومها ذهبت سيدة إلى خيمة أبيها.. نَشَرت فى الأفق حكايات عنه.. هو النقى، التقى، الورع.. هو الصديق، هو الوفى، هو الكريم،  هو الشجاع، هو زير النساء، هو الخصى...
تحاول سيدة أن ترسم المتشابه فى المختلف، أن توحد بين ذاته وبين حلمها، لكنها تخفى خلف رؤيتها  نظرات تطاردها وتطارده، لمزات تحاصره وتحاصرها..  سيدة تكره النظرات، تفهم اللمزات، لذلك استترت فى ليلها بالرجال وفى نهارها بالنقاب.
سيدة ليست امرأة عادية، ليقول عنها التاريخ إنها كانت هنا ورحلت، فآثار سيدة وبصماتها فوق جسد كل رجل مرت من أمامه ، رمت عيونها تجاهه، تركت كلمة أو صوتا أو لونا أو طَعما من فمها على شفاهه، لذلك فتح لها التاريخ صفحة أبدا لا تنغلق..  ليست هذه هى حكايتها الوحيدة ، هى فقط ما استطاع التاريخ أن يضع إصبعه عليه من حكاياتها، لكن لسيدة قصة فى الطفولة قبل أن تغادر دار أبيها وتغادرها، تذكر أنها كانت معها عروستها، تُجلسها على حجرها تهدهدها  كطفلها الذى لن تلده أبدا، تُسمعها حكاية من حكايات الرمل .. الدمع الذى يسقط لوأد النساء، فيجمع فى البئر ليشربه ناس القبيلة والعابرون،  وحوش الصحراء وطيورها..  كانت عروسة سيدة حزينة، لكن ليست مثل سيدة، أتت يومها أمها، أخذتها من يدها، ألبستها ما خلعه عنها آخر لتصير عروسة..  سيدة تترك للتاريخ صفحة مهمة لا تنسى ولا تنغلق – منذ ذلك اليوم-  هى مثل الدمع يسقط من العين، تتلقفه الأرض – الحزينة – تتشربه ، فيخرج نبت أخضر لتأكله بهائم الأرض دون أن تشعر أن هنا دمعاً وألماً..