ميلاد زكريا يوسف



الشاعر المصرى  
ميلاد زكريا يوسف

بائع الظلام
كنا نشعر بمجيئه
عندما تتعطل آلاتنا الموسيقية
و ينقطع النور فجأة :
بائع الظلام ….
يأتى فى عربته السوداء
حاملاً صناديق مليئة بالخوف والشر والحقد والظلام
عندها نغلق أبوابنا و شبابيكنا
فقد كنا نشترى منه دون أن يرى أحدنا الآخر
لم نكن نشترى منه سوى الظلام وقليل من الخوف
فقد كانت مفاهيمنا الأخلاقية فى تلك الأيام
تجرّم بضاعته الأخرى .
وبرغم رومانسيته الشديدة
وملامح وجهه البريئة؛
إلا أننا كنا و اثقين
أنه هو الذى قتل صانعى الشموع والمصابيح
لكننا لم نستطع أن نواجهه بذلك
فقد كان كثيرون منا يحتاجون إلى ظلامه
المصنوع بطريقة جيدة؛
بحيث لا يؤثر عليه أى نوع من النور .
وبعد رحيله مباشرة؛
نكتشف اختفاء إحدى النساء
وكنا نعلم أنه هو الذى يختطف نساءنا .
وقد زعمت الأشجار
أنه يلتهم المرأة فى ثلاثة أشهر؛
حتى يحولها إلى ظلام .
وربما هذا هو ما يفسر حالات الجنون الجنسى
التى كانت تنتاب من يشترون منه .
بل إن أحد العشاق؛
ظل يشترى منه أكياساً كثيرة من الظلام
بحثاً عن حبيبته التى اختفت
بعد إحدى زيارات الرجل .
وما كان يزيد من حيرتنا :
أن النساء يصبن - فور مجيئه -بالصرع
ونوبات مستمرة من الارتعاش والرعب،
وفى مرات عديدة؛
كنا نضبط إحداهن تردد اسمه وهى نائمة؛
وأخريات وجدناهن يسرن خلفه خفية
عندما يبدأ فى مغادرة المدينة .
كان قد قال لأحد العشاق
إنه يحب الأطفال؛
فلماذا يخافون منه ؟!
ولماذا يصرخون لمجرد رؤيته ؟!
غير أننا لم يكن باستطاعتنا ؛
أن نعرف سر الأكورديون الذى يعلقه على كتفيه
دون أن يعزف عليه مرة واحدة
ولم نكن نستطيع أن نفسر :
لماذا تغمرنا رغبة مفاجئة فى البكاء
عندما يتحدث عن زوجته
التى ستأتى يوماً لتقتله بنورها
وعن أمنيته فى أن يغمر الظلام العالم …
كان يخيل إليه أنه لابد سيموت مشنوقاً
فى سلك أحد المصابيح .
كانت شهوتنا للسجائر تزداد
لمجرد مروره أمامنا
فقد كان يمتلك قدرات غريبة على تحريك آلامنا ولم نكن نستطيع مقاومة ذلك الحنين المفاجئ
إلى طفولتنا؛
عندما ننظر فى عينيه الملونتين .
وأحيانا كان بعضنا يختفى تماماً
بعد شرائه كمية زائدة من الظلام
- كان العشاق واللصوص
هم أكثر من يشترون منه
فقد كانت كل أفعالهم بحاجة دائمة
إلى ظلام ثقيل-
أحياناً يكون غاضباً
وأحياناً ضاحكاً بصوت كالرصاص
لكنه فى كل الأحوال وبطريقة جنونية؛
كان يرمى قطعاً من الظلام فى الشوارع
أو يدسها من تحت الأبواب.
وبسبب هذا؛
فإن بعضاً منا كان يصيبه الظلام المتطاير
فاختفت أيادى وأرجل البعض
وعيون البعض الآخر؛
وأولئك هم الذين اضطروا - فيما بعد-
أن يصبحوا متسولين .
وأحياناً أخرى؛
كنا نلمحه من خلف زجاج شبابيكنا
وهو يبكى بحرقة .
وفى إحدى بكاءاته سكب صندوقاً كاملاً من الظلام
على المدرسة الابتدائية … فاختفت . . !
وحدث الشىء نفسه
مع أحد محلات الأكسسوارات النسائية
بل إن الأمر انتهى به
إلى تدمير كل ما يتعلق بالنساء فى المدينة
وفى إحدى المرات - بعد اختفائه مباشرة-
اكتشفنا فى الصباح
أن المدينة كلها مملوءة بالأكورديونات
بعضها ملقى على الأرض
أو سائر فى الشارع
أو طائر بجوار البلكونات
وظللنا غارقين فى موسيقى الأكورديون شهراً كاملاً
وكنا نفاجأ وقتها
بأحد الأكورديونات نائماً على سرير أحدنا
وهو يعزف موسيقا شديدة الشجن.
حتى جاء ذلك اليوم
عندما غرقت المدينة كلها طيلة الليل
فى ضوء أحمر قوى
وبسبب ذلك احترقت مساحة هائلة من الحدائق،
وانتشرت بيننا أعراض أمراض غريبة.
وكان طبيعيا وقتها؛
أن نرى المصابيح تضاء من تلقاء نفسها
ثم تنفجر فى صمت.
وتعطلت كل ساعاتنا تقريباً .
وفى الأيام التالية؛
شممنا جميعاً روائح قوية .
لمزيج من عرق نسائى وعطور زهرية…….
ثم ظهرت المرأة
كتلة من النور والنار . .
ارتفعت فى الهواء
واستقرت على سطح الكنيسة المهجورة .
وطيلة الوقت؛
كنا متأكدين أنها تنتظر وصوله :
بائع الظلام غريب الأطوار.
بعد مجىء المرأة؛
أصبحنا سجناء فى منازلنا
منتظرين نحن أيضاً وصول بائع الظلام .
وفى ذلك الوقت بدأنا جميعاً نتعلم الكذب
كى نهرب من خوفنا؛
كما بدأنا نتعرف - للمرة الأولى - على الأحلام؛
و دفعنا الملل إلى ارتكاب عديد من الخطايا
التى كنا نرفضها من قبل.
وفى أثناء هذا
كانت المرأة تغنى بعض الأغنيات العاطفية
التى تحكى عن نساء ينتظرن رجالهن .
وكان صوتها الساحر دافعاً لنا
كى نشعر بحقارة نسائنا
وأصبحنا أكثر استعداداً للخيانة
وفى الليل كان سطح الكنيسة
يبدو لنا - نحن الرجال - مثل سرير كبير.
وفى فجر أحد الأيام
ظهر بائع الظلام عند أطراف المدينة
لكنه عندما لمح الأضواء المنبعثة من المرأة
وضع يديه على عينيه
واستدار عائداً .
وعندما جاء فى اليوم التالى
اقترب من المرأة أكثر
ونظر كل منهما فى عينى الآخر ساعات طويلة
فاهتزت المدينة كلها
وعندما بدءا فى الحديث
تساقطت حوائط بيوتنا
ومات الأطفال جميعاً
كذلك مات جميع من هم فوق الخمسين
كانا يقتربان من بعضهما أكثر؛
كتلتين من النور والظلام.
عند ذلك
فوجئنا بأجسادنا تتضاءل
وبدأت محتويات المنازل
تتحول إلى نافورات مياه صغيرة
تحولت الأرض كلها إلى مياه عميقة تحت أقدامهما
واكتشفنا عندئذ أننا تحولنا نحن أيضاً
إلى زهور عباد الشمس طافية فوق الماء
بينما كان بائع الظلام والمرأة
يخلعان ملابسهما
ويلتصقان .
وكل ما نذكره بعد ذلك
هو كمية الدماء العظيمة
التى انفجرت من جسديهما،
وأصوات عظامهما التى تكسرت
وهما يغطسان فى مياهنا
ويختفيان تماماً فى نوم طويل ……..
فبراير / مارس / 1996

وصف الجنة المفقودة‏
قبل أن تصل اليه
تستطيع أن تشم مزيج العطور المنبعثة
من النباتات على جانبى الطريق
وكلما اقتربت أكثر من نهاية الطريق
ستزداد الظلمة
بسبب أقواس الأشجار العجوز فوق رأسك
وتستطيع أن تتخيل فى هذه اللحظة
أن هذا الممر الشجري
سيوصلك إلى نهاية العالم،
وأنه مناسب لمرور حبيبن متشابكى الأيدي
فجراً أو عند الغروب …
لن تستطيع أن تمنع العطر الرومانسي الغامض
الذى بدأ يتصاعد من قلبك !
وعندما تصل،
لا تندهش
فالأسوار العالية حول البيت كانت ضرورية
لحماية العائلة من فضول المزارعين والعمال
ارم وردتك من فتحة الباب الحديدي
والمس حديد الباب بصدرك العاري
فالباب لا يفتح إلا بقوة الورد وقوة القلب
ثم ادخل بقلبك أولا …
منذ زمن طويل بعد موت البستانى
 فى حادثة خيانة امرأته
لم يجمع أحد الأزهار والثمار من أشجار الحديقة
فظلت تتساقط حتى كونت غطاء ذهبيا فوق الطين
لذا، عليك أن تحاذر حتى لا تغوص قدماك فى سجادة الورد
أو بحيرات نبيذ العنب
المتناثرة هنا.. وهنا.. وهنا
ستلاحظ على يسارك،
هناك بين أحواض أشجار المانجو
الأرجوحة القديمة
 التى تناوب عليها جميع أطفال الأسرة
أما على يمينك فستجد المربع المفضل لمؤسس البيت
تقدم بهدوء على الدرب الضيق الصغير
المؤدى الى الدرجات الرخامية للبوابة الداخلية
سنراك وأنت واقف أمام الزجاج الملون مبهورا
 بالمقبض العاجي للبوابة الضخمة
ادخل..
الهدوء هنا كبير وكثيف
ولذلك، تستطيع أن تراه وتمسكه بيديك
لا تندهش
نعم، تستطيع هنا أن ترى الهدوء وتمسكه بيديك
لأن جميع من سكنوا البيت قبلنا
 كانت مشاعرهم ناعمة
على يسار الباب
سترى جثتين محنطتين لتمثال الخوف،
كان الجد الأكبر اصطادهما فى إحدى رحلاته.
في داخل المنزل،
لا نستعمل السجاد أو مفارش الأرضيات
لأن الباركيه الخشبي المدهون بالورنيش الأبيض اللامع
له تأثير أكثر رقة ونعومة
 من الشكل الكابوسي للسجاد
ولذلك تستطيع أن تستمتع بموسيقى خطواتك الرنانة على الأرضية
الطابق الأرضي، سترى بنفسك
أنه واسع وغير مقسم بالحوائط
توجد فقط ستائر حريرية سوداء
لتفصل بين المساحة المتخيلة لحجرة الطعام
والمساحة الوهمية لحجرة المعيشة
دون أن تتسبب هذه الستائر
فى جرح إحساسك باتساع حريتك
ودون أن تشعر أن مملكة عينيك ضيقة
فى أقصى اليمين
ستجد مجموعة من الكراسي المكسوة بقماش نبيذي اللون
ونعتذر لك.. لأن الكراسي لدينا متسعة بالضبط لجلوس شخصين فقط
فقط شخصان يمكنهما الجلوس متعانقين !
الكراسي مصممة بحيث تكون فضفاضة للوحيدين
 وضيقة على صديقين.
سنسمح لك في هذه المرة فقط
أن تجلس على أحد الكراسي وحيدا
 لتجرب بنفسك حاجتك
 إلى من يملأ الفراغ
 المجاور لجسمك
 لا تنزعج..
وفكر فقط فى شكل الطقطوقة الموضوعة فى منتصف دائرة الكراسي
وبها زوايا واضحة بحيث يوضع أمام كل اثنين كوبان من الشاي.
 وارفع عينيك قليلا،
 سترى فى مواجهتك تماما وعلى امتداد الحائط
 لوحة جدارية ضخمة تمثل صورة الإله
وهو يقضى على آلهة اللعب
استدر إلى الجانب الأيسر
سترى الـ "بيك أب"
وبجواره الاسطوانة الموسيقية المفضلة للعائلة..
 أدر الاسطوانة واستمع
 سيروقك صوت الأكورديون عندما يكون حزينا
 الـ "بيك أب" موضوع كما ترى
فوق صندوق زجاجي يحتوى تشكيلة مثيرة من الفخاخ
 فالعائلة كان لديها هوس تاريخي غامض بالفخاخ
وسترى على كل هذه الفخاخ آثار دماء
 ليس معنى هذا أننا فخورون بجروحنا
 ولكننا فحسب.. نحب من يثير فينا ذكرى الألم
على بقية الحوائط..
سترى مجموعة مذهلة من اللوحات المقلدة جيدة الصنع
 تتوسطها اللوحة الأصلية للعشاء الأخير كما رآه سلفادور دالي
اصعد درجات السلم..
 السلم - كما ترى - يبدأ من
منتصف البهو الأرضي ويدور فى منحنى واسع إلى الطابق الثاني
حيث ترى فى مواجهتك المدفأة العتيقة..
 وكراسي العائلة موزعة
 على هيئة نصف دائرة أمامها
المدفأة تعمل هنا صيفا وشتاء
 لأن طقس المنزل يكون شتويا على الدوام
 الطابق الثاني مقسم الى حجرتين واسعتين
 حجرة النوم الكبيرة
 وحجرة نوم الأطفال
حجرة النوم الكبيرة
 بها أكبر سرير تستطيع أن تشاهده
جرَب أن تنام عليه
ستشعر بالنشوة تتولد فى روحك
لأن هذا السرير به نوع من السحر
 والمؤكد أنه محشو بمادة من مواد اللذة الغريبة
 على يسار السرير.. المرآة الكبيرة
 وعلى اليمين..
الدولاب الضخم الذي يضم ملابسنا معا
ويجاوره السرير الصغير الذي نضع فيه كل مولود جديد من أبنائنا
حتى يتجاوز سنواته الثلاث
وربما ستشعر أن جو الحجرة
 يوحي إليك بأنك في قلب غابة متوحشة
 رغم البساطة الظاهرة في تكوين الحجرة.
 وبإمكانك -وأنت نائم على السرير -
 أن ترى شروق الشمس
إذا أدرت وجهك لليمين بزاوية خمس وأربعين درجة
وأن ترى غروب الشمس
اذا أدرت وجهك لليسار
 بزواية مائة وخمس وثلاثين درجة
فالحجرة بها شرفتان
 مفتوحتان على هذين الاتجاهين بالضبط،
والسرير يوجد في وسط الحجرة
 وغير ملاصق للجدار
وفي كلا الشرفتين ستجد الكرسي المزدوج نفسه
عن طريق الشرفة..
تستطيع أن تدخل حجرة الأطفال
ستجد أن حجرة الأطفال أكثر اتساعا
 وبها أكثر من عشرة أسرة متساوية الأحجام
وعشرة دواليب
 الأسرة موزعة بانتظام فى شكل دائري
لكي يستطيع الأطفال أن يروا وجوه بعضهم بعضا
 فلا يشعرون بالوحشة والخوف أثناء الليل
وفى الشرفة اليسرى لحجرة الأطفال يوجد بيت اللعب
 الذى يحتوي على كل اللعب التاريخية لأطفال العائلة
لا يوجد فى الطابق الثاني شيء آخر
 سوى الحمام وحجرتين صغيرتين أخريين
إحداهما حجرة البكاء
نحن لا نفضل أن نبكي أمام بعضنا
فخصصنا هذه الحجرة للبكاء
 ولذلك لا يوجد فيها سوى كرسي واحد
 أمامه حوض كبير من الكريستال
 ينكفئ الباكي عليه بوجهه لتسقط فيه الدموع
وعندما ينتهي، يغطى الحوض بإحكام
 حتى لا تتبخر الدموع وتضيع
 هنا فى هذا الحوض كل أحزان العائلة
 دموعنا النقية ممتزجة بلونها الأصفر
وملوحتها المترسبة في القاع
أما الحجرة الأخرى..
 فإنها حجرة الموت والضحك والأشباح العائلية
 أحد حوائطها مخصص لبورتريهات أفراد العائلة
والحوائط الثلاثة الباقية مبطنة بالصوف والريش
لكي تمنع صوت الضحكات الهستيرية
 من الخروج بعيدا
 هنا تحللت جثث أقربائنا
 الذين أصيبوا بالجنون الوراثي
وهنا تهيم روح الضحك طائرة
 لكي تغطي فضائحنا
 والآن..
بعد أن شاهدت كل شيء في الجنة
 اجلس بهدوء في أي زواية تختارها
وستجد نفسك تبكي دون سبب وتشعر بالهزيمة
وستظل تحدق
وتطير بخيالك داخل أشياء الجنة دون توقف
 وسوف يساعدك على ذلك تركيزك فى صوت بندول الساعة الذي يتحرك على الدوام
 في الساعة الكبيرة الموجودة في برج الجنة
 وانتظر..
الأطفال سيعودون حتما من المدرسة بعد قليل
والسيد لن يتأخر كثيرا
والسيدة لن تتأخر كثيرا…
انتظر…

المحب العظيم
لم نكن نعرف عن حياته السابقة
سوى شائعات تقول إنه كان فيلسوف عظيماً
باع كل أملاكه
ليتحول إلى شحاذ
صار يسير فى الشوارع حافياً
يربط على عينيه منديلاً أسود قذراً
يمد يده اليسرى أمامه دون أن ينطق بكلمة واحدة
وعلى كتفه بومةُُ عجوزُُ خرساء .
بعضنا رأى حجرته الوحيدة عارية الجدران
كانت الحجرة مليئة بصناديق القمامة ؛
على حائطها الشرقى صليبُُ كبير مائل
وفى منتصف السقف تتدلى مشنقةَ
مصنوعة من عدد كبير من حمالات النهود
كان يعود كل مساء يحدق فى المشنقة
ويستغرق فى البكاء حتى الصباح .
ومنذ أول يوم رأيناه ؛
لم نستطع أن نشعر بتعاطف تجاهه
شعرنا جميعاً أننا مجبرون أن نكرهه بشدة
حتى إن أطفالنا
كانوا يرونه فى الكوابيس
على هيئة قاتل قبيح الوجه
تولدتْ لدينا مشاعرُ القلق والخوف لأول مرة
وتألمنا كثيراً
لأننا لم نجد مبرراً واحداً يجعلنا نحبه
خاصة أن بعضنا رأى أسراباً من الذباب
تخرج من عينيه
حاولنا كثيراً أن نتجاهل أحاسيسنا به
جربنا أن نستضيفه ليشرب الشاى
كثيرون منا منحوه نقوداً وهدايا طفوليةً وملابسَ جديدةً وبطاطين وسجائرَ واسطواناتِ موسيقى وسلاسلَ فضيةً وساعاتٍ ….
كنا نجلس معه أوقاتاً طويلةً
نحدثه عن خفايا النفس الإنسانية
ونبتسم فى وجهه بودٍ
وقد تجرأ بعضنا على إمساك يده ومصافحته ؛
بل والضغط على أصابعه فى امتنان .
كما أن بعض النساء جربن كذباً
أن يوهمنه بأنهن يعشقنه
أجبرنا الأطفال أن يصنعوا له سريراً من عقود الفل
 ودعوناه فى احتفالات أحد الشعانين
وألبسناه تاجاً من سعف النخيل الأبيض
لكننا لم نستطع فى النهاية
أن نسيطر على مشاعر الكراهية الصادقة
التى أصبحت تحرق قلوبنا ؛
خصوصاً بعد تزايد أعداد البوم
التى تتبعه أينما سار
ونمو علاقته بالحشرات والعقارب
التى أشاع البعض أنه كان يتغذى بها
ازداد حرصنا على أشياء مجهولة
وصرنا متأكدين أننا معرضون لسرقة أشياء ثمينة
امتلأنا شعوراً بعدم الأمان
مما جعلنا نقبل على تعاطى المخدرات
وأصبنا بحالات غريبة من النسيان
فكنا ننسى أسماءنا ووجوه أبنائنا
ولم نعد نستطيع أن نتذكر الطرق المؤدية
إلى منازلنا
كان لدينا شعور قوى
بأن دماراً مخيفاً سيحل بأرواحنا .
ولا ندرى ما الذى حدث  له فى شهر يونيو
حيث بدأ يبيت فى الشارع : على الأرصفة
أو تحت أشجار الحدائق العامة
أو فوق تل القمامة خارج المدينة
بعد أن أحرق حجرته ورأيناه يرقص حولها .
بعد ذلك فوجئنا أنه بدأ يطلب من المارة أن يشتموه
 وأن يوجهوا له الإهانات .
صار يحمل فى يده عصاً من خشب الجوافة
ويطلب إلينا أن نضربه بها .
يتمدد فى الشارع
ويطلب إلينا أن نرقص فوق جسده
وندوسه بأقدمنا ، ونصفعه على خديه وقفاه
بل إنه علق فى رقبته  سلسلةً
تنتهى بورقة كتب عليها :
" احتقرونى كثيراً ؛ و لا تهتموا بضعفى
أو صوت صراخى ؛
فالحنان لا يجدى مع النجاسة التى ولدت بها "
كان يركع عند أقدامنا و يطلب أن يمسح أحذيتنا
بشعر رأسه .
وإذا رأى مشاجرة فى الشارع
يطلب إلى المتعاركين
أن يبصقوا على وجهه ويضربوه
بدل أن يضربوا بعضهم .
كان يتسلل إلى البيوت
ويغَطّس رأسه فى المرحاض
وبدأ يسرق مقابض الأبواب وأدوات التجميل
وحطم جميع المرايا فى حماماتنا
وملأ أحواض الاستحمام بالعقارب .
عندما ماتت بومته المفضلة ؛
أخذ يكتب فوق الحوائط و أعمدة الإنارة كلماتٍ
غريبةً مثل :
" العبيد أمثالى لا يستحقون الشفقة
أنا لست أكثر من صندوق للقمامة ،
وقلبى مجرد وكر للصراصير "
" أرجوكم وفروا محبتكم وجمالكم
للبشر الحقيقيين "
 " لدى خونة كثيرون لا تكفيهم الكراهية
وأحزان كثيرة لا يفيد معها البكاء "
عندها كان علينا أن نعترف بالحقيقة
التى حاولنا إخفاءها عن أنفسنا
نعم .. كنا خائفين أن نصدق أننا نكره إنساناً ما
امتلأنا بالشك
وصار كل منا عدوانياً تجاه أى شىء
فأصبحنا نثور لأسباب تافهة .
نسير ونتلفت وراءنا دائماً
كأننا مطاردون .
مبادئنا التى بنينا عليها أرواحنا ؛ أصبحت مهتزة .
لم نعد نمتلك إحساساً
بوجود شىء حقيقى فى حياتنا .
لم نستطع أن نتهرب من تأمل نفوسنا
فاكتشفنا إلى أى مدى كنا مخدوعين فى حقيقتنا
وكيف أننا لم نحاسب أناساً كثيرين على خياناتهم
ربما لأننا لم نرغب أن نشعر أن بيننا خونة .
وانتبهنا على وهم كبيرا اسمه الإخلاص
 وشعرنا أننا عشنا عمرنا كله
بأكاذيب صنعناها نحن ؛
تألمنا لأننا اكتشفنا أن الأكاذيب
تظل دائماً مجرد أكاذيب
وندمنا على المرات الكثيرة
التى قلنا فيها : " صباح الخير "
لبشر لا يستحقون أن يروا وجوهنا
وتمنينا أن يعود الزمن فنستعيد الحب الذى قدمناه
نستعيد الضحكات والكلمات التى قلناها .
لكن أفظع ما عرفناه بعد ذلك
أنه كان يسطو على مقابر الموتى الجدد
ويمزق أجسادهم وينتزع قلوبهم ليأكلها
وكلما حاولنا قتله
يدعى مثل الثعالب أنه ميت
وتصدر عنه رائحة نتنة
تجعلنا نفر من أمامه سريعاً .
 ذات مرة قابل إحدى الراهبات وقال لها ؛
إنه ليس آكِلَ لحوم بشرٍ
ولكنه يفتش فى أجساد الموتى
عن قلب واحد يحبه .
وزاد الأمر بعد ذلك
فكنا نجد كل صباح
جثة أحد الكلاب أو القطط
منزوعة القلب أيضاً
وكتب على الحوائط بعدها :
"    اتركونى وحيداً فى البرد
 أنا لا أستحق دفء مشاعركم
لا أستحق ابتساماتكم
اقتلوا نساءكم إذا أشفقن على? 
 أعرف أن النساء لن يعشقننى
أنا العبد القذر
فاتركونى أجبر الحيوانات على محبتى "
فاستيقظت فينا رغباتُنا القديمةُ فى فعل الشر
وصرنا لا نتحرك بدون أن نحمل أسلحة .
ولم يفلح النوم فى تخليصنا من شبحه
بل إن جميع تماثيل الملائكة
التى كنا نزين بها حجرات نومنا ؛
بدا أنها اختفت بشكل إعجازى
ولم يتبق منها سوى أجنحتها الرخامية مكسورةً
وشعرنا بأجسام هلامية تزاحمنا فى بيوتنا وأعماقنا
أيضاً ؛ بدأنا ندرك للمرة الأولى
أن هناك شيئا يسمى التعاسة
غير السعادة الزائفة التى عشناها من قبل
 فى حياتنا الخالية من المعانى المؤلمة .
بعد ذلك ؛ أحسسنا جميعاً
أن المدينة مملوءةُُ بجيش من الشياطين
كل يوم تحترق ملابسنا المعلقة على الشماعات
جميع النساء أصبن بسرطان الثدى
والرجال فقدوا قدراتهم الغرامية
والأطفال جاءتهم هيستيريا انتحارٍ جماعيةُُ
فكانوا يمضون تجاه البحر مسلوبى الإرادة
وفى يوم الثلاثاء البعيد ذلك
جمع الرجل كومةً كبيرةً من الملابس والدواليب
والأوراق والعظام ،
وأشعل فيها النار
ثم قفز إلى داخل هذا الجحيم الصغير
ظلت النار مشتعلةً ليلتين
كنا نسمع خلالها ما يشبه أصوات الحرب
مختلطا ببكاء أطفال وموسيقى أعياد الميلاد
وفى الليل كنا نشعر جميعاً أثناء نومنا
بأيادٍ خفيةٍ تعبث فى صدورنا
فى مكان القلب تماماً
ولما انطفأت النيران تماماً
وجدنا تحت الرماد قلباً هائلاً حيّاً ينبض
ويتدفق منه الدم بغزارة .
كان صوت النبض عظيماً ؛
يصم آذاننا رغم إغلاقنا لبيوتنا جيداً
أظلمت الشمس تدريجياً ثم اختفت…… إلى الأبد .
وبرغم أننا كنا فى منتصف الصيف
إلا أن الثلج انهمر بغزارة
فتجمدت أطرافُنا ومشاعرُنا
وبدأ القلب الكبير يتدحرج فى اتجاه البيوت
فوجدنا أنفسنا مسحورين ومنجذبين إليه
ابتَلعَنَا القلب واحداً واحداً
ولم يتبق منا سوى أفواهنا وألسنتنا
تطير فى السماء
وتعلن كلّ صباح
أنها ما زالت ترفض أن تحب
فيلسوفاً عظيماً تحول إلى شحاذ .

قصة الخيانة
منذ ذلك اليوم البعيد ؛
الذى هبطت فيه من السماء
مجموعة هائلة من الرجال المجنحين
حتى أخفوا عنا قرص الشمس؛
ثم اختطفوا جميع نسائنا
وأخذوا معهم جميع شرائط الأفلام السينمائية
والصور الفوتوغرافية ؛
التى تظهر فيها النساء
وحطموا أبراج الإذاعة والتليفزيون
وطاروا ثانية إلى ما وراء الشمس…..
ونحن هنا على الأرض
التى صارت معسكرا كبيرا للرجال
بعضنا فكر أن ينتظر فوق الجبال
خصوصا بعد أن فوجئنا
ببعض الملابس الداخلية لنسائنا
تسقط مع الأمطار
وظللنا لفترة طويلة
نحلم بسقوط مجرد أعضاء من أجساد حبيباتنا
جربنا أن نغرق فى حزن قوى
وأن نشترك فى طقوس بكاء جماعى
لكن أحاسيسنا كانت غامضة
إلى درجة أن البكاء بدا لنا شيئا تافها
ونشأت بيننا عادات غريبة
مثل النظرات الطويلة العميقة إلى بعضنا
كان كل واحد منا يبحث فى بقية الرجال
عن شىء يذكره بامرأته
وكنا نرى أجساد النساء فى كل شىء
صرنا نأكل كأننا نمارس الحب
وننظر إلى أضواء الشوارع كأنها نساء
تقريبا صارت الأرض كلها
مثل امرأة عارية هائلة
وأصبح عاديا أن نسير فى الشوارع
ونحن نكلم أنفسنا
ازداد عدد المجانين بشكل وبائى
وظهر تجار كثيرون
يبيعون خصلات شعر نسائية مزيفة
زاعمين أنها تشفى من الأمراض
وامتلأت الأرض بالديانات الغريبة
فتم بناء معابد حمراء أنيقة بأسماء نسائية
واعتقد البعض أن الأرض غرقت فى النجاسة
وأن الآلهة خافت على طهارة النساء ورقتهن
فاختطفت كل النساء
بل إن البعض تطرف فى الدعوة
إلى تعظيم النساء
فقاموا بتكسير التماثيل القديمة
ونصبوا فى الميادين تماثيل لأجساد النساء
أما المتدينون ؛ فقد حاولوا التغلب على أشواقهم
بتعاطى كميات كبيرة من زيوت الخروع والكافور
وممارسة الرياضات الروحية الصامتة
وسموا أنفسهم باسم رهبان النسيان
وتدريجيا ؛ بدأنا ننسى وجوه النساء
ونعتاد على غيابهن
ذبلت أعضاؤنا
ولم نعد نهتم بمظهرنا الخارجى
توقفنا عن الاستحمام وحلاقة الذقن
وارتداء الملابس النظيفة
وأحرقنا اللوحات النسائية العارية
فى حجرات النوم
ومسحنا جميع التذكارات الرومانسية
التى تركها العشاق على الحوائط والأشجار
أخذت وجوهنا تتغير
حتى أصبحنا جميعا نشبه بعضنا
وصارت عيوننا مثل علب الصفيح القديمة
ولم يتبق من وجود الأنوثة
سوى الذكريات الباهتة
التى ما زال البعض يحكيها
فى جلساتنا المسائية أمام المنازل
أو فى غرز الحشيش والمقاهى الصغيرة
منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما
وكان الواحد منا
يستطيع أثناء تدخين الحشيش أو البانجو
أن يؤكد لنا أنه ما زال يحتفظ فى فمه
 بطعم قبلات امرأته
وأن أرواح النساء تهز سريره فى الليل……
لكن الحديث عنهن بدأ يختفى
مع موت نسبة كبيرة  من الرجال
الذين عاصروا النساء ورأوهن
رغم تأكيدات البعض
على أنهم لمحوا نساء يظهرن أمام
النوافذ فى الليالى المقمرة
وأنهم يسمعون صوت ضحكات نسائية
تنبعث من دواليب الملابس
أما صغار السن ؛
فكانوا يؤكدون أن النساء
كن خرافة من خرافات المسنين
إلا هو ؛
ذلك البستانى المشوه الوجه
كان مصرا على انتظار عودة امرأته
وفى صباح كل ثلاثاء
كنا نراه يغسل ما تبقى من ملابسها
ويعلقها على أشجار حديقته
وهو يعزف على الهارمونيكا
موسيقى لأغنيات تتحدث عن البرد والوحدة
مؤكدا لنا أن جميع النساء ذهبن فى رحلة بعيدة
ليغتسلن بالنار والموسيقى
فيعدن أكثر جمالا
برءوس مضيئة وأجساد شفافة
وبشرة وردية وشعور طويلة لامعة سوداء
سوف يصير لكل عضو منهن أجنحة
ولتتطهر قلوبنا بالغياب
لتصبح جديرة أن تمتلئ بمخلوقات نورانية كالنساء
وكنا دائما نتساءل عما يشعر به
وهو يجمع أكواما من التفاح والعنب
وينام عليها ويتحسسها
وهو يلهث بصوت عال
كان يعتقد أن شبح امرأته يراقبه ليل نهار
ليختبر وفاءه
فصنع أسوارا زجاجية حول حديقة المنزل
حتى لا تتسرب رائحتها الساكنة بين الأعشاب      
وأحواض الورد والمياه
وحتى لا تهب الرياح فتمحو آثار أقدامها
ثم رأيناه يتحدث كثيرا ويشير بيديه
لمدة استمرت ما يقرب من سنة كاملة
وقال لنا إنه تحدث بكل الكلام
الذى يريد أن يقوله لامرأته
وحبسه فى فضاء البيت
 لكى يكون فى انتظارها أيضا عندما تجىء
وقد عرفنا مؤخرا أنه التهم طفله الصغير حيا
بعد أربعين يوما من غياب زوجته
 لأنه يحمل دمها
ولأنه لمس ثدييها بشفتيه
وفى بعض المساءات ؛
 كان يصاب بهياج شديد
 فيفتعل مشاجرات وهمية
 ويقلد صوت امرأته وهى توبخه
 ويتخيل خصامات وهمية معها
 مرتديا ملابسها الداخلية
وملونا وجهه بمساحيق التجميل النسائية
ويجرى حول الأشجار راقصا بسرعة جنونية
حتى يصاب بالدوار
ويأخذ فى تمزيق ملابسه فى بكاء شديد
وينادى على امرأته ليخبرها
أن جسده أصبح بلا فائدة
وأن آثار أصابعها ضاعت من فوق الجدران
وأنه يشتاق كثيرا أن تعضه بأسنانها
 وهى نائمة
ويشتاق كثيرا أن تضمه فى صدرها
حتى تحطم ضلوعه
ويشتاق أن تغضب عليه
وتحدثه عن رجال آخرين يحبونها
ويحتاج أن تجرحه بأصابعها
وكنا نسمع صرخاته تلك
فترتعش فى أرواحنا رغبات كنا قد نسيناها
كنا سعداء بموت ذاكرتنا وأحاسيسنا
لكن البستانى ظل مصرا أن يذكرنا بهن
معتقدا أنه آخر حامل لسلالة الدم النبيل
والدفء النسائى
فكان يجمعنا مرة كل شهر
ويحكى لنا عن الأيام البعيدة
التى كانت مملوءة بالنساء
ويذكرنا بالأوقات التى كنا نتلذذ فيها بتعذيبهن
ويصف لنا شكل أقدامهن عندما يمشين
ويقلد لنا أصواتهن
والسحر الذى يرفرف عندما يتكلمن
أو يغنين فى الحمامات
ويركع تحت أقدامنا ؛
طالبا أن نتذكر النساء :"قلب العالم الغائب"،
وأن نقدم ذبائح كثيرة للشمس كى تعيدهن
 فنصاب جميعا بما يشبه الحنين
لكننا فى الحقيقة
أصبحنا نخاف من عودة النساء
لأننا جميعا كنا واثقين أن النساء لا ينتظرننا
وأنهن الآن وراء الشمس
عرايا فى أحضان رجال آخرين
نعم……كنا على ثقة أن النساء كلهن
يمارسن الآن خيانة جماعية للذكور
فهن غير مخلوقات لتحمل الغياب
إنهن مجرد معابد لدين الخيانة
وفى الواقع إن عودة النساء
أصبحت تبدو لنا مثل غزو واحتلال
لأرضنا نحن الرجال
حيث شعرنا جميعا رغم كل شىء براحة وأمان
بعد كل هذا العمر الذى قضيناه دون نساء
ودون آلام ودون أجساد
لكن البستانى العجوز
كان دائما يدافع عن أحلامه؛
وعن الجمال الساكن فى قلب المرأة
فيقول إنهن هناك وراء الشمس
يتعلمن فنون الجنس والرقص والغناء
وسوف يعدن أكثر أمومة وأكثر طفولة
سوف يشربن من المياه السحرية
التى ستجعلهن حبيبات حقيقيات
وأن العالم كله سوف يعود نظيفا كما كان؛
لينا وطريا كما كان
صاخبا ومليئا بالخطايا العظيمة كما كان…
وكنا جميعا نلمح حول رأسه
هالات من النور الملىء بوجوه النساء.
وعندما يتكلم؛
كنا نسمع صوت قبلات وتأوهات
كان البستانى أكثرنا إيمانا
بأهمية أن نحلم بالنساء
لكننا كنا قد كرهنا الأحلام
كنا فقط نريد أن نرتاح فى يأسنا العظيم
صرنا نخاف أن نحلم بالمتعة
وامتلأنا بالرغبة فى أن نموت هكذا
من غير سعادة تقتلنا
صرنا نحب الملل والكآبة
كنا سعداء بكوننا رجالا مهجورين
وأصبحنا نمتلك مبررا قويا
كى نكره الحياة ونشتم العالم
وبدت لنا حياتنا السابقة مع النساء
كأنها لعبة سخيفة….
ولأننا لم نجد ما نكرهه سوى أنفسنا
فقد قررنا أن نكره البستانى ونحتقره بشدة
فقد كان يبدو لنا بإصراره على انتظار النساء
وكأنه الرجل الوحيد الحى بيننا
نعم…كرهناه
وتمنينا أن ننتزع قلبه ونحرقه…
وفى تلك الليلة كان القمر مكتملا
فشعرنا جميعا بحيوانات القتل الجميلة
تنهش فى أعماقنا
وسمعنا من داخلنا نداءات ناعمة
وأصوات رياح وأشجار وعصافير
فأحطنا بالبستانى ومزقنا جسده
وأكلنا جميعا من لحم قلبه
لكننا امتلأنا فزعا فى اليوم التالى
عندما رأيناه حيا
يغنى فى حديقته
ويرقص رقصته المعتادة
بعد ذلك تأكد لنا
أنه يظهر فى عدة أماكن فى وقت واحد
لكن ملامح جسمه بدت مختلفة
فقد كان موضع قلبه بارزا فى صدره
وكانت عيناه تلمعان لمعانا خاطفا
يذكرنا بعيون النساء وهن يجهزن الطعام
أو يغسلن ملابس الأطفال.
وظللنا طيلة هذا الشهر نقتله فى المساء
 لنراه حيا فى اليوم التالى
بينما نزداد رغبة فى قتله
حتى صرنا مدمنين لشرب دمائه
فكنا نحتفظ بزجاجات من دمه
 وقطع من لحم قلبه
وعندما يأتى منتصف الليل
نجلس أمام بيوتنا
لنشعل السجائر
 ونرتشف زجاجات الدم
وكنا نرتعش من النشوة والشهوة
عندما يمتزج طعم الدم البارد بدخان السجائر .
وفى ذلك المساء الأخير
خرج البستانى أمامنا
وسار حتى حدود المدينة
ووقف أمام قرص الشمس النحاسى الكبير
وفتح ذراعيه
 صارخا باسم امرأته فى صوت عظيم
وتحرك فى اتجاه الشمس
 مبتعدا
مبتعدا
يصفر بفمه…….
حتى صار نقطة سوداء فى قلب الضوء
اختفى…
وتركنا واقفين على حافة الصحراء الباردة
ملتفين بالبطاطين الرمادية
والمخاط يسيل من أنوفنا….
وبينما تلمع بين شفاهنا جمرات السجائر
والهواء يدفع بالأوراق المبعثرة فى وجوهنا
خرج من بيت البستانى
صف طويل من النساء
فى ملابس بيضاء
وحولهن دوائر من الفراشات المضيئة
ومضين إلى الشمس
خلف الرجل الوحيد الحى فى العالم
ونحن هنا…..
واقفين فى أماكننا منذ أزمنة طويلة
قمصاننا مفتوحة
وأرواحنا تدور فى الأرض
هربا من الخيانة
نحن المحبين الأبديين…..

أغنية شعبية
فتحنا قلوبنا علي أقصي اتساعها
فتحنا عيوننا علي أقصي اتساعها
نزعنا أبوابنا وشبابيكنا
وضعنا أشجارا ووردا وماء
علي عتبات بيوتنا
استأجرنا عازف بيانو
ليغني دوما فوق سطوح منازلنا
وانتظرنا أن يأتي الحب
وضعنا شباكا وخطاطيف حول سور المدينة
لعلنا نصطاد الغرام
حين تقذفه رياح الصيف إلينا
استهلكنا أطناناً من القهوة
كي نبقي ساهرين
لعل الحب يخاف النور
ربما يأتي الحب ليلا فيجدنا نائمين
قتلنا كل النساء
لعل الحب لا تروقه وجوههن
وقلنا : لا بأس
سيأتي الحب بالنساء اللائقات به
تعلمنا تنهيدات العشاق
وتدربنا علي الخجل الذي يليق بالعشاق
وسرنا إلى جوار النيل في ضوء القمر
لعل الحب يهبط علينا
أخبرنا قلوبنا كيف تنبض بصوت عال
وأخبرنا عيوننا كيف تكون النظرة الولهانة
قرأنا الروايات الغرامية
وسمعنا الأغنيات الغرامية
وعرفنا كيف ترتعش أيادينا عندما تلمسها المحبة
وعرفنا كيف نشم رائحة المحبة عندما تأتي
وكيف نضع المحبة علي أطراف ألسنتنا ونذوق عسلها
جلسنا في المقاهي
وحدقنا في كل شيء يمر أمامنا
ربما يعبر الحب متخفيا في ثياب الباعة الجائلين
ربما لا نسمع صوت غنائه بين ضجيج السيارات
ربما لا نرى لون عيونه في زحام كرنفالات الفتارين
كلما رأينا شحاذا منحناه نقودنا
واشترينا المناديل الورقية من كل فتاة صغيرة صادفناها
قد يكون الحب متخفيا بين هؤلاء
أنصتنا جيدا… فربما يأتي الحب في رنين التليفون
ربما يتحدث إلينا الحب من بلاده البعيدة
خفنا علي أنفسنا من قذارة العالم
فارتدينا جلالبيب سوداء
وأحرقنا جميع ملابسنا الملونة
حتي لا نبدو ملوثين
فيرفض الحب أن يأخذنا في أحضانه
وارتدينا قفازات لنحافظ علي طهارة أيادينا
وارتدينا نظارات من الرصاص
حتي لا نرى إلا المحبة
ووضعنا كمامات علي أنوفنا
حتي لا نشم عطور البشر
وروائح العالم الفاسد
أغلقنا أفواهنا بالصمغ
حتي لا نتحدث إلا للحب
قلنا ربما يخاف الحب من البرد
فأحرقنا نصف الأرض لتكون الحياة دافئة
وقلنا ربما يخاف الحب من الشمس
فصنعنا للدنيا مظلة هائلة
وقلنا ربما يري الحب أعدادنا كبيرة
وربما لا يكفينا
فتقاتلنا
بالسكاكين
وبالسم
وبالنار
ووضعنا المشانق في كل مكان
حتي مات نصفنا
أرسلنا مبعوثين للكشف عن المحبة
في أجساد الأولياء والقديسين
وفي المناجم القديمة
وأرسلنا غواصين لالتقاطه من قاع البحار
غربلنا تراب الأرض
ربما نجد جوهرة المحبة
تهنا بين البشر
سرنا في زحام الموالد منتبهين
وفي عربات المترو
ومدن الملاهي
وحفلات الزفاف
والجنازات
والمراكز التجارية
ودور السينما
ربما يلمسنا الحب مصادفة وسط هذه المهرجانات
سبع سنوات كاملة.. أو يزيد
ونحن نجري وراء طيف الغرام
ولما تعبنا.. وتهرأت أحذيتنا.. ونحلت أجسادنا
صنعنا بحيرة كبيرة من الزجاج المكسور
ووقفنا في وسطها حفاة
بعد أن ربطنا أقدامنا بالجنازير
وفتحنا شراييننا
حتي نزفنا كل دمائنا
وقلنا إن الحب سيدخل أجسامنا
من فتحات الشرايين..
وهكذا..
أصبح كل شيء
مهيأ لاستقبال الهوى..
فلماذا لم يأت ؟!

كومبارس
أرجوك يا أخي
وحبيبي احتفظ بروحك
لم يعد لدي مال يصلح لشراء روحك
كما أنني حتى الآن
لم أستطع استعمال أجزاء جسمك
التي بعتها لى رغما عني
جربت أن أستبدل أصابعي الخشنة
بأصابعك الرقيقة
لكنني لم أنجح أن أشعر بأصابع حبيبتي
وهي تلمسنى لمساتها الحبيبة التي تخدرني
وجربت أن أنظر الى الحياة
من خلال عينيك الملونتين
لكنني لم أستطع أن أرى الأشياء التي أحب
رؤيتها
بل إنني في بعض الأحيان
كنت أرى أماكن وأناسا غير موجودين
وقلبك..
آه من قلبك
كم عذبني أن أجرب استعمال قلبك
بدلا من قلبي المليء بالألياف
كانت سخونة قلبك حارقة ولاسعة
ولم تناسب الرجل الثلجي
الذي يتاجر قلبي منذ ولادتي
استبدلت ذكرياتي المليئة بالدموع
بالمهرجانات المضيقة التي اشتريتها منك؛
في تلك الليلة التي شربنا فيها كثيرا
 لكن احتفالاتك كانت أيضا مليئة بالمر وأبكتني
عندما آستعرضتها حادثة حادثة
ومشهدا مشهدا.
وجربت استعمال وجهك الأنثوي
الجميل
لكنني عندما مرت به في الشارع
لم يعرفني أحد
ولم يقل لي أحد من أحبائي،
إنني مرت أمتلك وجها أنثويا جميلا.
حتى النساء اللواتى كنت تحبهن
حاولت أن أجبر نفس على مجرد
الحديث اليهن
لكني لم أكن أفهم مطلقا بأية لغة
يتكلمن
كما أنني لم أستطع أن أحب طريقتهن في
تصفيف الشر
أو اختيار ألوان الماكياج والفساتين.
اسمعني جيدا يا أخي وحبيبي
لقد رفعت جميع جواهر أعضاء
جسمك
بين صفحات دفتر مذكراتي فوق أعلى
رف في المكتبة
وعندما تحتاج أن تعود للحياة
ستجد نفسك محفوظة في انتظارك
لأنني أحبك
ولا احب
أن يضيع شيء من جسمك
الذي أحبه أيضا
اسمعني يا أخي وحبيبي
أنا لا أستطيع أبدا شراء روحك
لأنني ببساطة شديدة
قد بعت نفي بكاملها
لقد حدث هذا منذ أربع سنوات
عندما مرت امرأة غامضة
ورأتني أستعد للانتحار كعادتي
فساومتني على أن تشتريني
في مقابل أن تختار لي بنفسها ميتة
طيبة
وفي الواقع أنني ربما ارتحت
لفكرة أن يكون هناك شخص
مسؤول عن موتي
فبعتها نفسي
والمشكلة التي تواجهني الآن
أنك لا تفهم أنني لم أعد موجودا
والكارثة أيضا
أنني لا أعرف ماذا منعت بالثمن
الذي أعطته لي المرأة
والمؤلم في النهاية
أنني لا أعرف أين أنا الآن؟
وماذا صنعت بي تلك المرأة الغامضة
بعد أن بعتها نفسي
عندما كنت - كعادتي –
أستعد للانتحار...؟

هناك تعليقان (2):

  1. samr adel
    لم اشعر انها قصيدة بل انها قصة حقيقية فعلا عشت فيها وبالاخص اني التضاد في الجمل الذي يبرز المعني ويوضحه انا بشكرك ياستاذ ماهر انك نصحتي بقرائتها واني سوف اواصل مثل هذا النوع من القصائد .بس ليا تعليق علي وصف الجنة هي الجنة فيها اشباح وستائر سوداء امال لو وصفت النار هتقول ايه اسفة دي مش سخرية والله دا مجرد تعليق

    ردحذف
  2. يسعدنا يا سمر ان اختيارنا عجبك .. فى الحقيقة ميلاد زكريا شاعر جميل .. قصايده مليانه شاعرية ورقة وحزن يتسرب زى ما هو بيوصف بمنتهى النعومة … طبعا هو جنته .. مش جنة ادم .. دا بيته القديم .. منزل الطفولة ” ربما” وبالتالى من الطبيعى ان الطفولة يكون فيها اللعب والحزن .. ويكون فيها الحياة والموت .. وبالتالى كمان الاشباح والستائر السوداء … المشكلة تظهر لم نظن دائما ان مصطلح زى الجنة او النار لا يحمل الا معنى واحد .. مش هى لغة وانا اقدر احملها بمشاعرى واحاسيسى وفهمى ..وبكدا اغنى اللغة والقصيدة .. بتنور المدونة يا سمر

    ردحذف