محمد مستجاب



الكاتب المصرى الكبير 

محمد مستجاب 

مستجاب السابع

طوبى لمن وضع زهرة على قبر أو قصر أو صدر، ولمن ولد فى الشهر السابع أو الثانى عشر ولحلق يصبح حلقوما، ولمن ذبح حصانه الوحيد كرما، طوبى لمن جثا استغفارا أو اشتهاء، ولمن حمل على الظهر صليبا، ولمن اشعلت النار تحت ماء الحصى تضليلا لجوع عيالها، ولخشم يصبح خيشوما، ولزمن كانت الزوجة فيه تجمع أشلاء قرينها ليحيا، ولحق يفزع وجلا داخل شق الباطل، ولوطن يأكل ثرثرة الباطل، ولوطن يأكل ثرثرة السطوة، ولبلع يصبح بلعوما، طوبى لمن جعل أذنا من طين وأذنا من عجين حتى قطعت رأسه، ولشمس لا تزال تطلع شرقا ولنجم ثاقب فى يوم غائب، طوبى لهذه القصة التى لم تكن منشأة لمستجاب السابع لولا تلك الواقعة التى كشف عنها كاتب يعمل أبوه مؤلفا سينمائيا من أن السابع قتل السادس سرا وباع جثمانه لطلبة التشريح وأقام بالثمن سرادقا فخما ذا أضواء باهرة وميكروفونات ملعلعة بالذكر الحكيم كيدا للأعداء، وحفظا على مفاخر آل مستجاب لقديمها وحديثها ووقف على باب السرادق يتلقى خالص العزاء وهو إفتراء على الرجل يصيب كبد الحقيقة بالتليف ويداهم القصة فى بؤرة التقائها مع ما ورد بعد ذلك من أمور وبالتالى قلبنا على الواقعة ماجورا.

****

فالسابع من آل مستجاب كان يكره ثلاثة الدم والموسيقى واللبن الرائب، فالدم جاءه فى أعطاف تاريخ ملطخ فتك فيه أحد أجداده المبكرين بأخيه ومزق جسده إربا ووزعه على أركان النجع حتى قامت زوجته الملتاعة فجمعت الإرب من أكوام السباخ، والدم جاءه من إحدى جداته حينما بقرت بطن أحدهم ومضغت كبده تشفيا، والدم ورد إليه فى لفائف حبال مشانق مغموسة فى شق الخوف والشجاعة لإناس جاءوا صدفة فى عصر جده الثانى، أما الموسيقى فهى صوت الشيطان الجامح المشتعل طربا يتقافز فى عروق الشهوة، والذى تلبس جسد السادس فأحاله إلى ثور هائج يداهم النساء والأحجار والبقر، والموسيقى هى المس المزمجر فى أحشاء أخته الهاربة فى أثر عبد مأفون يمكنه أن يرقص الجبل حين يعزف على ربابته، أما اللبن الرائب فشاربه خائر فاتر، يمتلئ بطنه بالغازات وقلبه بالإستكانة وعقله بالخمول والوخم، حتى أن مسجاب الرابع - المغرم باللبن الرائب - أقام عرشه بجانب محل الأدب فى قصة تجدون أثرها فى مكان آخر، وكان من كثرة إدمانه الرائب: يستريب فى الناس والحقوق وتوالى أيام الإسبوع ويرتاب فى الألوان والأصدقاء والصحف والمجلات وأقول السلف.

****

غير ذلك كان مستجاب السابع، مولعا منذ فجر شبابه بثلاثة: العدل والصيد وأمر آخر لا نود أن نذكره هنا، إذ كان يداهمه بكاء ونشيج حين يأتيه نبأ تلميذ طرد من المدرسة لعدم تسديده المصاريف، أو خبر امرأة لاقت عنتا من كاتب الطاحون ومراقب القواديس، شئ عن جار دخل عليه العيد دون هدوم جديدة، أو مستجابة ضاق بها الحال دون الغموس، أو جمل قوضت الأحمال ظهره المسن، أو صبية قطعوا الطريق بينها وبين أمها، أو غراب حيل بينه وبين عش أفراخه، أو قناة أسن ماؤها أو فسد عشبها، أو غيمة أتلفت الريح مطرها، أو ثرى أصابه ورم الإحتباس، فما كان السابع ينام كما ينام الناس، بل ظل يعس متلمسا ألم البيوت وضيق الخلق، حتى وهو فى غمار رحلات صيده لا يفتأ أن يرسل رجاله ويستقصى حال أهله، ودائما كان عقله ينسحب من لذة محاصرة الغزلان ليعود إلى البيوت متسلقا الأبواب والنوافذ ليطمئن، ودائما كان إحساسه الشهم يغادر ملاحقة الأسود وشباك السباع لينسل عائدا إلى مكامن الأطفال والأيتام والأرامل لترتاح جوانحه.

****

غير أن أمر السابع – وهو الآن بين أيديكم- لم يمض كما نأمل، ولم يعبر كما عبرت حكايات الأسلاف خلال عوائق الدهور، فبينما كان عائدا من جولة عس التقى به شيطان فى هيئة مزرية، ورمق السابع بضحكة فجة خشنة مثل ليف النخل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومال السابع يروم طريقا آخر، لكن إبليس داوره وناوره حتى اضطر السابع محنقا أن يصرخ فيه: ماذا تريد يا عدو الله؟ فقال إبليس بعد أن عدل من هيئته المزرية وارتدى مظهرا فاخرا ووضع يده الأنيقة - فى ود - حول كتف مستجاب السابع: زوجتك تمنح جسدها لعبيدك، تدق الموسيقى - هكذا قال الشيطان - كل ليلة فى موطن شرفك حتى يتفجر اللبن الرائب من مكامنه دما.
حينئذ - ويالهول الدنيا - دارت الدنيا بالسابع حتى أن الصبح ارتدى أسمال الليل وأشعة الشمس البكر اللينة تكسرت إلى سيور غرابيل وانحلت عمامة السابع لتصبح أمعاء واصطخبت الرياح فى إهاب الجلد الإنسانى العادل، واستل السابع سيفه يشج به رأس إبليس، لكن الدنيا ظلت فيفاء ساكنة هامدة تلامسها من بعيد أشعة واهنة لشمس صباح لم يرد من قبل شيطانا .

****

مستجاب السابع – مثلى ومثلك – يتردد فى المباغتة عدلا وتوقيا للمزالق، وكم من طبول دقت على رأسك – مثلى- فما اضطربنا تحاشيا لضحك الناس علينا، وعلى ذلك فقد عاد السابع العادل إلى بيته الكبير، وتعمد ألا ينظر إلى عبيده وصعد إلى مجلسه فتحاشى أن ينظر إلى زوجاته، أى منهن تستحق الآن أن يفصل رأسها الجميل عن جسدها الشرير، أى منهن تلك التى انغمست منذ ساعات فى برميل الخيانة اللزج، أنى لى أن استحضر إبليسا كى يزيد الكارثة وضوحا والمأساة تحديدا؟ فطلب مستجاب السابع المثلوم قليلا من ماء غير ساقع وابتلع به حبة عقار مهدئ فقام وصلى لله –عز وجل- ركعتى الوجل، ثم ازداد هدوءا فصلى ركعتى الخوف، ثم ركعتى الرحمة ورشف كوبا من لبن دافئ فاستكان أكثر، لكن ملامح عياله بدأت تتشكل قاسية فى ملامح عبيده، وبدأت ملامح عبيده تتسلل إلى تضاريس رؤوس وأعماق وأجساد ذريته، فى الأذن والقواطع والأصداغ واستدارات الذقون والتواءات الوجنات واستدارات الرقاب، جهنم تفتح الأبواب وتتلقى فحيح الريبة وأوار الرعب فعاد السابع إلى ركعتي صلاة لا يذكر لها اسما، ثم أعلن قبل ظهر ذلك اليوم قراره بالاستعداد خروجا آخر النهار فى رحلة صيد، فبدأ رجاله فى إعداد الركائب وتجهيز المؤن وسن النبال .

****

هى الرحلة الأولى التى يخرج فيها مستجاب السابع آخر النهار، لم يكن يستطيع - كما تعرف - الانتظار فى جهنم ليلة آخرى، وهى الرحلة الأولى التى لم يصطحب فيها واحدة من زوجاته، لم يكن يقدر - كما تعرف - على النظر إلى إحداهن دون أن تجتاحه النار، ودقت الطبول لينتشى النجع فرحا وتوديعا، وخرج الركب فى أكمل عدة وأبهى زينة وأعتى رجال، وفى المقدمة سار السابع مبتسما برغم كل الأعاصير واللهب والاضطرام، انتبه أيها المستجاب لكى لا تصبح أمثولة حمق مهما كان الإمتحان عسيرا فقال لنفسه: ها أنذا أدخل المشقة من باب الرحمة، سوف أترك للزوجات فرصة الإختلاء بالعبيد، وسأمثل بجسد كل من يشارك فى العبث بشرفى: فعلا أو مداراة أو خوفا أو إخفاء أو تسهيلا، وستصبح نساء آل مستجاب كلهن موعظة فى تاريخ النساء، وستصبح عذارى آل مستجاب – كلهن - البعيدات والقريبات، المخطوبات والمنتظرات، العوانس والزاهدات، ثمنا لهذا الآفك، سوف يضع يده على الفعل الإثم إن تحقق، وعلى كل عذراء - بعد ذلك - أن تعد نفسها قربانا لمستجاب السابع: ينالها فى صهوة الليل، ويقتلها فى صدر الصباح، ويدفنها فى صهد الظهيرة، ويستعد لغيرها فى أول المساء.

****

ظل ركب الصيد يسير فى الطريق المعهود، والرفاق يتجادلون ويتمازحون ويتضاحكون إلا السابع المنكمش فى لباس الصيد والغم والكرب والإحتقان والإنتقام، حتى مر يوم ثم يومان، والركب يتمهل فى بقاع سبق للرجال أن نالوا فيها حظا جيدا فى الصيد، وحظوة طيبة فى المرح والإنتشاء، لكن السابع كان قد عزم على أن يتيح لنسائه امنيته فى تخييب وقيعة إبليس، وفى اليوم الثالث جاءت إشارته لنصب الخيام، وترك الرجال يتولون شأن الموقع، واستبدل حصانه المعروف للكافة بآخر وإدعى لأصحابه أنه سوف يقضى أمرا، واعتدل على الجواد مطلقا العنان للريح واللهب، ومال إلى طريق غير مطروق خشية أن تراه عين فيصل زوجاته خبر عودته قبل عودته، وكل الطرق - مهما طالت أو تعرجت - ستؤدى حتما إلى الحقيقة القابعة فى مكمن آل مستجاب زوجات وعبيدا.

****

فى أحقاب تالية - دون قطع لمجرى القصة - روى الشامتون والخباصون والخدم وكتبة الصحف والشعراء أنهم رأوا بأعينهم مستجاب السابع، فى البقاع النائية وراء الوادى، يبيع الفئوس والنعال والشراشر، ويرتق براذع الركائب ولجامات الحمير، ويشترى الجلود وذيول الخيول وليف النخل، ويتاجر فى المكانس والمنشات ومنافض رأس العبد، ويؤجر جواده لعربات كسح النفايات وينادى فى الأسواق على المراهم وقطرة العيون والششم وسفوف دود الأمعاء ويستحضر مساحيق الإثارة وخمائر اللبن الرائب، ويوضب مانشتات الصحف ويحرر المجلات ويلون الأغلفة، وينشد القصائد والرباعيات وأناشيد الدفاع عن الشرف التليد، ويمارس الحجامة فى رؤوس اليتامى حتى يصل الدم إلى الأعناق، ويمسح البلاط ويرص المداميك ويصلح المدافئ ويغسل الصحون ويسبك اللحوم، ويدق الطبول ويعزف الربابة ويرقص منتشيا فى ساحات الأعراس، ويفتح المندل ويقرأ الفنجان ويفسر الطالع للغرباء والمقهورين، ويمتطى الضفادع ويصارع الأرانب لراغبى التسلية والإنبساط، ويصلح السبورات والمقاعد والتليفزيونات والفيديوهات والأحذية وشئون النساء

****

وهذا كله ليس صحيحا ولا يرد به إلا على خاطر حاقد أو ملتاث أو مريض، مع أن خبر مستجاب السابع يقف بنا عند هذه النقطة الحرجة إذ لا يزال أصحابه ينتظرونه بين آكام الشجر تمهيدا للإيقاع بغزال أو نمر أو أرنب أو ثعلب ولا تزال زوجاته فى مستقرهن مع العبيد تنتظرن الرجل الذى غاب طويلا، فطوبى لمن تمهل قبل أن يقول ولمن قال قبل أن يفعل، وطوبى لمن فعلها مرة دون أن يخشى، ولمن وضع زهرة على صدر أو قصر أو قبر، ولمن التقى بمستجاب السابع، ولمن ولد فى الشهر الثانى عشر ولذرية مستجاب التى استشرت فيهم ملامح العبيد .

الذئب

اللهم احمنا من الكاذب والمخادع وذى الصوت المنفر، واكشف لنا – يا رب – نوايا ذى البالين المداور المناور واجعله كاسفا وارحمنا يا رحمن من قولة آثمة تدمع العين وتبلبل الخاطر وتفرق بين العيال، وساعدنا يا كريم فى فهم حكاية سعيد الأسود الذى لم يكن أسود، والذى ظل الخمسة والعشرين عاما الأولى من عمره مبهجا مبتهجا، يغنى عابرا بالمأتم ويزعرد على فتحات المقابر، فيلطمه القوم حينا ويقرصون أذنه حينا، ثم يدعون عليه أن يفتك ببطنه ذئب فى قرية لم يشاهد أحد فيها ذئبا.
وشاءت الأقدار أن يشرخ سعيد الأسود مغرب المكان صارخا نادبا مستغيثا فأهاج صغار الماعز وأوكار الغربان، الذئب، الذئب، الذئب، وكانت كف محمود أبو على قد تشبثت فى كف الحاج عبد البر، ممتزجتين بدعوات المأذون توثيقا لمصاهرة توقف سيل المهاترات والمشاجرات والديون والقضايا، الذئب، الذئب، فاضطربت الكفان وأنشدتا، كذاب وابن كذاب سعيد الأسود الذى يقلد حكايات تلاميذ المدارس، الذئب، الذئب، فقام عملاق باعتراض طريقه ولطمه وأسقطه فى حزم على الدكة، وأعاد وكيلا العروسين كفيهما المضطربتين لكف المأذون، فمار فى الجو رصاص ومرح، الذئب، الذئب، كاذب وابن كاذب ليزداد الجو صخبا.
فريحة – أو فريجة – عادت فى اليوم التالى زائغة ناحبة تبحث فى المنحنيات والتواءات الجسور عن أثر لشاتها، وضحك القوم خابطين على أفخاذهم، واشتد الضحك جاذبا حكايات مماثلة عن مذمو السيرة اللذين فقدوا جمالا وحميرا وماعزا، وتطرق الحديث إلى جولات شهيرة لأجداد واجهوا عفاريت وقرودا وغيلانا ومردة، وقال الشاعر: ما يشرخ الليل إلا الخيل والبندق، والصح – كما يعلم الجميع – ما يشرخ الليل إلا الجبل والنخوة، وفى موال مهجور يظهر أيام المرح: العمدة ركب الحمار، طلع له ديب النهار، قال له أنا الديب يا فارس، شاور له على بطن الحمار، وهو موال يختل إذا ما عاد الديب ذئبا، وفى صباح مشمس اضطربت حمارة سمعان وعادت من الحقل مذعورة تتصادم فى طوب الأرض وتنهق فى السابلة بلا سمعان، واجتاح الغيظ محمد أبو صادق فهرع إلى بندقيته واندفع إلى المزارع، وبعدها بخمسة أيام اقتحمت جاموسة مجهولة البيوت وضرعها يشخب دما، ثم عادت فريحة تنقب مولولة عن ابن ابنتها وانعقدت الحكايات فوق المصاطب وتحت نور الكلوبات تصف الذئب بمنخاره الأحمر وعيونه الملتهبة ومخالبه الدامية وطلست عواجيز البيوت الكوات بالطين حتى عمت الديار الظلمة، ورويت مساخر عن الجبن والشجاعة وانسياب المياه فى السراويل، وارتعب الناس من الصبح المبكر والمساء الغائم وانثناءات الجداول وانحناءات الأفق، وتدفقت الرؤى المؤكدة أن الذئب جاء مجروحا من البرارى البعيدة فى ليلة صقيع كادت تفتك به فيها جماعته الجائعة، وأن الذئب الهائم حول القرية لا يهاجم طاهرا أو ذا بأس أو يتيما أو تاجر توابل، يضنيه الحزن فيهيم ذابلا يتشمم الندى، وتخترمه الوحدة فينوح حمامة يداورها الأسى، ثم يجتاحه القلق فيضطرب، قطة تتمسح فى جذوع الاشجار، ويهده التجول فيمسى شاعرا يبغى ظلال القصائد، ثم يشويه الشجن فيستحيل قمرا يلهث بين الغيوم بعدها تتفجر فيه الذءوبة فيندفع وحشا يداهم رقاب الحملان وبطون البقر، وانكفأت القرية على رؤوس الرجال تتهمهم بالتخاذل والجبن والخور، وأخذت القرى المجاورة تطلق على مواليدها أسماء الديب ودياب نكاية وتشفيا، فاجتمع الرجال مرة فى الدوار الكبير، ومرتين عند العمدة ومرة فى السويقة، وبين كل مرة واخرى نهش جحشين وخروفين وضاعت ماعز وبندقية وثلاثة كلاب، بعدها تكونت سرية من خيرة شباب العائلات مستعدة لغزو طوب الأرض، اجتاحت السرية المسلحة المقابر وأدغال القصب وسحارات الترع وشونات الحطب وأوكار البوم وظلال السحب وأصوات الجنادب وظلام الحفر وقواديس السواقى، وبين كل غزوة وغزوة يستريح المطاردون على المقاهى يأكلون ويحتسون ويتضاربون، ثم يجتمعون مرة أخرى لينسابوا حول القرية فى تصميم، وفاضت الترعة فى موعدها فلم ينتبه أحد لدورة الرى، ومات ذو نفوذ فى المدينة فلم يتسنى لهم المشاركة فى العزاء، وجاء يوم السوق فلم يحفلوا، واحتفلت القرى المجاورة بيوم الشيخ أبى هارون دون الاهتمام بغياب وفودهم، وتساقطت أكواز الذرة وسنابل القمح طالبة الجنى والجمع والحصد، وازداد الناس تكالبا على السلاح والمواويل وحكايات الأجداد المنتصرين على كل أنواع الوحوش، وانطلقت النكات والأضاحيك والنوادر تخفف عن الجمع المسلح الوطأة، ثم لم تلبث الأخبار السعيدة أن بدأت تصل: فرج القمص وجد جثة الذئب متعفنة فى صندوق عظام، عابدين القوصى سحب عظام الذئب بالدلو من البئر الغربى، عبد العزيز أبو خليل وجد جثته مطمورة ممصوصة ناشفة أثناء نقل التبن، جاد أبو جيد أغلق على الذئب عيون قمينة الطوب وأشعل فيه النار وشم الجميع الرائحة، وجلس الرجال المسلحون يجترون نهايات الذئب التى جاءت متوافقة مع توقف الإفتراس.
كان ذلك اليوم رائقا وجميلا، جلس بعض الرجال على مقاعد المقهى، وأخرون على الأرض، وبين الأيدى أكواب الشاى والبنادق والإرهاق والحكايات وبوادر الإرتياح، ونسيم آخر النهار يعابث الغصون وذوائب العمائم وأطراف الشوارب وأكمام الجلابيب، والشارع الواسع قادم من جوف الخلاء يخترق القرية مارا بالمقهى وممتدا إلى أخرها ،وبدا الأمر انكسارا لنور وظلال، حينما، من بداية الشارع، جاء متشكلا يسير فى هدوء، الذئب، مرفوع الرأس يتشمم الهواء بأنفه الحمراء، أشعث مغبر كأنه قادم من جوف قبر قديم، الذئب والعيون كل العيون قد اتجهت إليه، إليها، ليس ذئبا ذكرا، ذئبة قانية العيون تتقافز بين سيقانها أربعة جراء تتعابث فى أثدائها المأرجحة المتضخمة بطول البطن، ظلت تسير فى الشارع، والحركة قد هدأت إلا من صوت تلاطم الأثداء فى رؤوس الجراء، وتوقفت برهة أمام الرجال، أمعنت الذئبة الضخمة بعيونها الضيقة النارية فى الناس، فى الأكواب والبنادق والعمائم والشوارب، ظلت واقفة كأنها تتيح لهم فرصة أن يروها جيدا ثم تحركت من جديد ليبتعد عنها جراؤها ويعودوا فيلهوا متقافزين، ظلت تسير حتى اختفت فى نهاية الشارع الطويل، ذلك الذى قدم منه سعيد الأسود، والذى ليس أسود، صارخا، مرتعبا، الذئب الذئب فامتدت الأيدى وأهالوا على رأسه التراب ولطموه على وجهه وقرصوا أذنيه ثم دعوا عليه بأن يفتك ببطنه ضبع فى قرية لم يشاهد فيها أحد ضبع.

 مستجاب الخامس

خمسة مآلهم الجنة: مستجاب الأول لأن جهنم لم تكن اكتشفت بعد، وأم آل مستجاب لأنها أم آل مستجاب، وجبار يتيه في الأرض مرحا قال "لا" لامرأتين متتاليتين ثم قال نعم لأول رجل يقابله، وبليغ قرقعت الحروف في حنجرته حتى وقع بين شطري قصيدة قديمة، ومستجاب الخامس الذي فاته اعتلاء أريكة آل مستجاب مرتين:
الأولى فور هلاك الرابع الذي داهمه شيطان في محل الأدب، فبحثوا عن الخامس في الدروب وظلال الجميز والفيافي، حتى أدركوه بين قوم وهبوا أنفسهم لله، وعندما استعاد نفسه كان السادس قد وطد أمره وجعل من السابع خدينا لمجلسه ووليا لعهده، والمرة الثانية هي هذه التي كتب علينا أن نفصح عنها كي ندرأ ما يكون قد علق بها من أدران وسوء نوايا وأغاليط.
 كان الخامس قويا كنملة، ضعيفا كبقرة، إذا شرب عب وإذا وقف شب وإذا غضب صب، أخذ عن أخواله وسامة ونزقا، وعن جده مستجاب الأول عنادا في الحق وكراهة للبيت وصبرا على الأصدقاء وولعا باللحوم، وفيما يروى فإنه كان لا يقرب لحم خروف دون الإمتلاء، كما كان مغرما بالطحينة يقضي وقتا مستمتعا في إعدادها.
ويروي المقربون طرائف عن فورة انتشاء تترك على الذقن الكث والزعبوط الرصين طرطشة بيضاء. لكنه في أوقات استرخائه يظل مستلقيا يمزج بعيونه القمر في مخلوط النجوم وقد أدى به ذلك أن أصبح أشهر من أعد ألغاز إمتحان من تأتيه فرصة إمتلاك ناصية الأمور، والأمر ببساطة أن القواعد تقضي على من يقترب من الأريكة أن يحل لغزا يثبت به أن عقله هو أصفي العقول، وأن جنانه هو أثبت الجنان، وأن فؤاده هو أعمر الأفئدة، ومستجاب الخامس هو الذي وضع لغز ذلك الكائن الذي يسير على أربع في الصباح وعلى اثنين في الظهيرة وعلى ثلاث في آخر النهار، هذا اللغز الذي حله مستجاب الأعرج ليصبح مستجاب الثالث، كما وضع لغز ذلك المخلوق الذي يمكنه أن يعدي البحر دون أن يبتل ليصبح مستجاب الحابل مستجاب الرابع والشيء الذي كالفيل يمكننا صره في منديل لصالح مستجاب الثاني، والباب الذي يأتي منه الريح فإذا أغلقته فلن تستريح لحساب الثامن، وهذا الذي يقف إن وقفت ويمشي إن مشيت، فلما فشل مستجاب العاشر فى معرفة انه (الظل) كادت أريكة آل مستجاب أن تختل، لولا فتوى طيبة سمحت له بإعادة الاختيار بلغز جديد تم  إعداده بدقة ليصبح: يمشي إن مشيت ويقف إن وقفت، فكادت الجماهير تغشى من هول ما فرزته قريحة الخامس، والذي ألغى من ذاكرته أنه صاحب حق في أريكة قومه، إذ استعذب أن يوكل إليه وضع المعضلات والعراقيل التي بدونها لن يصبح أحدهم ذا شأن، وقد أعد لذلك قدرا معقولا من ألغاز حول بعض الطيور والضفادع والعناكب، وكثيرا ما أتاح للأرائك المجاورة لآل مستجاب استخدم ألغازه، فأصاب في المنطقة حبا وشهرة ومجدا واحتراما، وأصبح ذا كلمة مسموعة وأمر مطاع وحضور مشع، يخدمه في ذلك علم ومعرفة ودراية وسمو، ثم تواضع مهذب ولسان عف، ما رويت حادثة إلا ناقشها وقام بتأصيلها وإلغاء الأوشاب التي تكون قد لحقت بها، وما رويت قصيدة إلا وأسرع بردها إلى مصادرها وأورد مشابهاتها، وما صدرت من أحد حكمة إلا واقتنصها، ووضعها في موقعها الصحيح المرتبط بمركز بدايتها، ولذا فقد حرص فنانو القول – من المداحين والشعراء والرواة وندابات الجنائز– على الإرتكان إليه فيما يطرأ على نصوصهم من اضطراب أو تآكل أو شك أو تطويع غير مقنع، وكانت زوجته الرابعة تفخر بأنها وهبت نفسها لأغلى ما جادت به الطبيعة: الذاكرة والذكورة، وهو أمر لا نحب أن نتوسع في التعرض له حتى لا تلتوي القصة منا، لا سيما وأننا نعرف عنه ثاقب النظر وسرعة الرؤية وصفاء الرؤيا، إذ كان يمكنه أن يتعرف على النساء العابرات من الإمعان السريع في كعوب أقدامهن، وكان ذلك يتم في أضيق الحدود حتى لا تتكرر حادثته مع زوجة مجهول خلع عنه أرديته وأعاده إلى قومه عاريا، وهي حكاية مبالغ فيها ولا نحب التوقف عندها كثيراً، فقد استمر الخامس هو خير أهله جميعا: وإن كان قد شكا – بعد ذلك – من ضعف ألمّ ببصره فقد ظل قلبه حديدا، ومن تنميل أصاب ركبته اليسرى، دام عقله ناصعا، ومن ورم فتك بإحدى الخصيتين (بسبب امتطاء متعجل لحمارة تعدو) ازدادت مشيته خيلاء، ومن كسر في الفقرة الرابعة من عموده بدا أكثر تواضعا، ومن تساقط في أسنان فكه العلوي فقد أصبحت سليقته أسرع اندفاعا، وإلى غير ذلك من تجارب ليست ذات بال إزاء أخطر كارثتين تعرض لهما طوال حياته، الأولى: حينما هربت زوجته الثالثة مع عشيق زوجته الثانية، والثانية: حينما انجذب ابنه السابع – والأثير – إلى الشعر الحديث متخليا عن العمودي ذي الشطرتين، وقد واجه الخامس مثل هذه المصائب القدرية كما واجه كارثة تفويت حقه في أريكة آل مستجاب من قبل: إيمان راسخ وثقة بالخالق وتشبث بأهداب الفضيلة، فما ارتعش أو اضطرب أو ناح أو لعن أو كابر في غير الحق، وما تأخر عن صلاة أو تخلف عن أماكن يرومها، وما خرج عن وعيه في مجالس احتساء البوظة أو مواقع توزيع الصدقة أو مكامن استلاب اللذة، وعندما تجتاحه النشوة يتألق بإنشاد القصائد وإزجاء الألغاز وتلاوة عيون النثر، كان يتسع ويمتد حتى يصبح آل مستجاب كلهم نقطة صغيرة في وجدانه الواسع، ويستطيل ويشمخ حتى يمسي نخيل المنطقة نجيلا تحت قدميه، ويرق ويصفو حتى تكاد ترى أغنام وكلاب ونساء ودروب الوادي وراء جسده الشفاف، ويدق بكعبه الأرض حتى ترتج مطلقة الشياطين من سراديبها، هو الإجابة الصحيحة على كل الأسئلة وهو سرعة البديهية على الإعتراض أو المشاكسة أو الاستخفاف، وهو النوم الثقيل تحت الشجر أو وراء الأكمات أو في مرابط البهائم أو في ظل المعابد أوتحت الأزيار أو على حافة الآبار، قيل له: مستجاب التاسع يحوز قنطارين من خالص الذهب، فانحنى الخامس على الأرض وتناول زنبقة وتنسم أريجها فذهبت مثلا، وقيل له: الثالث بنى هرما يقي جثمانه عبث الزمان، فانتفض زاعقا وشرخ صدره وأخرج قلبه وصرخ: وهذا هرمي، فذهبت مثلا، وقيل له: العاشر يبحث عن الحكمة بين الناس فقال: الحكمة في ملاءة السرير، فضحك القوم وانصرفوا ساخرين، لكنهم فوجئوا بمستجاب العاشر وقد قضى نحبه في ملاءة نومه المكللة بجحافل الدود وما كادت هذه الواقعة تذهب مثلا حتى ارتج الأمر على القوم، فإن أحدا من آل مستجاب ذا شأن لم يكن قريبا من أريكتهم، عيال وأرامل ومرضى ومعتوهون وموصومون ورجال جاءوا من فروج غير مستجابية، فما من مستجاب خالصيّ امتطى الأريكة إلا وقد استخدم حق القصاص في المناوئين والأعداء وذوي الدم الثقيل وخلال الأحقاب الماضية كان أي مستجاب يقتص من القريب كي يعتبر ويتعظ البعيد، ويضرب المربوط ضربا مبرحا كي يخاف السايب، فنزح من يستطيع النزوح واعتل من يمكنه أن يكون عليلا واستبله من وجد طريقا للبله، وأصبح الأكثر أماناً من أن تلوث مستجابيته الأدران: في الأصول أو السلوك أو القول، فليس من المعقول أن يتولى أمر أنصع الناس طماع أو كذاب أو محكوم عليه بنفقة أوابن غجرية أو فاسق أو غير ملتزم بمراعاة النصوص، وليس من الزهو والفخر أن يكون مستجابهم الجديد قزما أو عبدا أو مضطرب اللسان أو أجيرا أو غير مدرك لعلم الكلام، وبات من العبث – ومن الخزي أيضا – أن يبعثوا من يسترد الصالح من المستجابيين الخُلّص النازحين في أماكن بعيدة، فانكفأ القوم على نفوسهم فترة يفكرون ويتفكرون خشية أن تظل أريكتهم بلا مستجاب فتصبح نهبا لذوى البأس والمطمع، وأفاقوا – في أول صباح – من انكفائهم على طاقة من النور، الخامس هو الأصلح والأحق والأنسب ليصبح مستجاب الحادي عشر.
أول ما واجه القوم أن الخامس متمسك بالخامس دون أن يطلق عليه الحادى عشر، فحاولوا إثناءه عن مطلبه الذي يعني إقرارا من القوم أنه صاحب حق في الأريكة منذ عصر مستجاب الرابع، فلما عاند أذعنوا تحت فتوى عاجلة تقول إن الاسم لم يعد يعني الترتيب بقدر ما هو لقب شخصي، ثم كان ثاني ما واجهه: من ذا الذي يضع اللغز لصانع الألغاز دون أن يشوب الأمر نقد وكلام؟ وقد انتهت المعضلة بتفويض أحدهم أن يستحضر لغزا من صفحات الجرائد والمجلات ذات السمعة الطيبة، مع مراعاة – وهذا كلام بينهم لا يخرج للآخرين – أن مستجاب الخامس غير مسموح له بالخطأ في اللغز، فلم يعد الأمر يخصه وحده، بل يخص قوما تشخص أبصارهم انتظارا لما تأتي به المقادير.
كان اللغز الذي استقر عليه رأي القوم أن يعدوا ذئبا وعنزة وربطة حشيش، وعلى صاحب الحق في الأريكة أن ينقل العناصر الثلاثة في قارب من غرب النهر إلى شرقه، على ألا يصطحب معه سوى عنصرين على الأكثر. وما كاد المسئولون يعلنون عن نص اللغز وعن موقع امتحان مستجاب الخامس حتى هاص الناس وأسفروا عن قرائحهم، وصنعوا مجموعات هامسة تحاول فك اللغز دون أن تترك العنزة مع ربطة الحشيش – أو تسيب الذئب مع العنزة، وأيا كان كلامهم وما وصلوا إليه من حلول، فإن الطريق بينهم وبين الممتحن قُطع، ومُنع عن الرجل أن يتصل أو يتكلم أو يثرثر مع أحد، اتقاء للشبهة ودرءا للقيل والقال.
في الصباح كانت ضفتا النهر – شرقا وغربا – تغص بالقوم خصص موقع ظليل لضيوفٍ، هم شاهدون على صحة الإختبار، وأقاموا ظلة أخرى لمحبى مستجاب الخامس جاءوا مجاملة وتشجيعا من وراء الجبال ومن بين غيوم السماء، وأعدوا موقعا على النهر حالوا بين القوم والاقتراب منه، وجاءت اللجنة المختارة بالعنزة، ثم بعد وقت قليل بالذئب وأبقوه بعيدا عن العنزة، ثم أتوا بربطة برسيم جيدة الخضرة، وسمحوا لجماعة منتقاة ومختارة من بين ذوى الحصافة والرأى، ليعاينوا عناصر اللغز، وليتأكدوا من أن العنزة ذات شهية، وأن البرسيم غير ملوث بمواد منفرة، وأن الذئب ذئب وليس كلبا أو شاخصا أو حيوانا أليفا وبعدها أتوا بالقارب ليرسوا قريبا، وبعد فترة صمت: هلَّ مستجاب، بوجهه الأبيض وملابسه الناصعة وجسده الممشوق، فارتجت الضفتان وانطلقت الأعيرة النارية ابتهاجا وفخرا وجاء أكبر أعضاء اللجنة سنا فمسح على رأس مستجاب الذى امتثل، ودعا له بالفلاح والصواب وحسن التصرف، ثم قرأ نص اللغز بصوت جهوري، وما كاد يخرج من البقعة حتى نظر الخامس مليا في عناصر اللغز، وابتسم، فصفقت الجماهير امتنانا.
لف مستجاب الخامس حول نفسه مرتين، ثم نظر إلى القوم، واقترب وئيدا إلى العنزة ففك وثائقها وسحبها إلى القارب حينئذ وضح للجماهير صواب مدخل الرجل لمواجهة اللغز، وقفزت العنزة إلى القارب وخلفها رجلها، وبدأ يحرك المجدافين ومعه العنزة تاركا الذئب مع الحشيش، فازدادت الجموع صياحا وإعجابا، وظل يجدف حتى وصل إلى الشط الشرقي حيث ربط العنزة وعاد بقاربه وسط مظاهر الحفاوة، حينئذ أصطحب معه ربطة الحشيش فكاد يغم على القوم، إذ كيف ينقل البرسيم إلى حيث العنزة، لكنهم تداركوا مدى عمق تفكيره حينما ترك الحشيش على الشاطئ الشرقي وعاد بالعنزة في قاربه ولعل الأمر الآن أصبح منطقيا بعد خلوه من الملابسات، فقد أعاد الرجل العنزة إلى الشط الأول، وبعد أن ربطها، فك وَثاق الذئب، وضغط عليه ليقفز إلى القارب، فانفلتت من حناجر الجماهير أمواج صاكة من الإعجاب بددت الغيوم وأقلقت السموات السبع …
كان اللغز يتفكك وينحل، العنزة في الشط الغربي، والحشيش في الشط الشرقي، والجماهير على الشطين تزيد وتهتاج وتصرخ في انفعال شريف جارف، والمراقبون يحمدون للخامس رجاحة عقله وإلهام وجدانه، ومستجاب الخامس في القارب وسط النهر مع الذئب.
كانت المرة الأولى التي يواجه فيها مستجاب الخامس ذئبا ونظر كل منهما للآخر، ونظر مستجاب إلى الضفتين وابتسم في امتنان وود وكبرياء، ونظر الذئب إلى الضفتين وابتسم في امتنان وود وكبرياء، ثم أعاد نظره إلى مستجاب، ثم لم يلبث أن تراجع للخلف زائما.
وقفز الذئب قفزة رعدية أرجحت القارب وفتحت بطن الخامس، فانطلق في الضفتين هتاف وإنشاد وتصميم، ودَوَّى الرعد إعجابا، وعين البرق تحرس عناصر اللغز، العنزة في الغرب والحشيش في الشرق، ومستجاب الخامس مبقور البطن في قارب يتأرجح منتظراً أن يسلم مقدمته لأي تيار.

حافة النهار

ارتبكت الشمس قليلاً فازدادت احمراراً، وهبط ثعلب في المجرى فلما استأنس أمناً مد بوزه وسط الساسابان ولعق من المياه، واشرأب رأس ضفدع فتوقف الثعلب عن الرشف وبدأ يتحفز للقنص، ووضع (الحاج) طفله الوحيد أمامه فوق حمارته (المصبوغ ظهرها بالحناء من كثرة الجراح) ساحباً بقرته ووليدها خلفه، وأطل نمس من بين عيدان القصب آملاً أن تهمد الحركة فيعبر الطريق، وتقاربت غمامتان فامتزجتا وتدفق بطنهما بالحُمرة، واقتحمت السماء هوجة زرازير محدثة جلبة فأجفل العجل الصغير لكن البقرة ظلت تسير هادئة خلف حمارة الحاج (الذي كان يزنّ بموال ويقرص في رفق رقبة طفله مداعباً إياه ببعض الشتائم ليظل الولد مبسوطاً) وضرب (الحاج) الحمارة فوق رقبتها كي تتخطى قطعاً في أرض الطريق، ووثبت الحمارة فتشبث (الحاج) ضاماً ابنه في عبه وكاد يسقط فعاد لضرب الحمارة مرة أخرى ولعن أبا الذي باعها له فانزعج النمس وارتد داخل القصب، ومن الناحية الأخرى بص ذئب على (الحاج) وابنه والحمارة والبقرة والعجل ثم فتح عيناً وأغلق عيناً ورقد .
سأل (الحاج) طفله: ارتجفت؟ فبكى الولد، أعاد السؤال مرة أخرى : ارتجفت؟ فسكت الولد، أقسم (الحاج) لطفله أنه سيطلع جباناً مثل أخواله وقرصه عدة مرات في أذنه، ضحك الطفل وضحك (الحاج) وجرى العجل الصغير بعيداً عن أمه ثم عادإليها.
ازداد احمرار الشمس فاضطرت أن تنكس رأسها وراء الجبل ساحبة شالها الضوئي من حول رقبة النخيل، وأوقدت عمتي نفيسة الفرن ليتكاثف الدخان ويحط الهباب فوق وش صحاف السمك المرصوصة على الأرض المككل وجهها بالقوطة والزيت والبرغل، شم الكلب الرائحة فتثاءب وتحرك فوق الحائط وقفز في الباحة ودنا من الصحاف متحسساً الأرض بأنفه ثم رقد، وخرجت أرانب يامنة أم محمود من جحورها وانتشرت متوهجة العيون تتنسم الأعواد في التراب، وجست الحاجة شفاء مؤخرات فراخها لتطمئن على البيض ونادت ابنتها وسبتها لتخاذلها في نقل الماء من الزير إلى الأباريق قبل أن يتأتي الليل، واستطاع محمود عبد الجابر أن يشد وثاق جمله
أمام الباب بادئاً في تضميخه بالزيت الأسود كي يخفف عنه الجرب.
وسحب الشيخ حسني صديقه محمود حسنين من كم جلبابه جاذباً إياه وملحاً في اصطحابه للمسجد كي يؤديا صلاة المغرب، فلما قاومه اتهمه الشيخ حسني بالكفر مستنزلاً فوق رأسه اللعنات وأنبأه محتداً بأنه حتماً سيدخل النار، وتجمع نفر قليل حول حمار وحمارة أتيحت لهما فرصة التواصل، ونصبت أم كامل عند الرجال الطبلية في مدخل الدار ورصت عليها صحن ملوخية وصحن قلقاس وطبقتين من العيش المقمر في تراب الفرن ونادت على محمود – زوجها – للعشاء فأقسم على رفاقه أن يقوموا معه ليشاركوه الزاد، واتجه ثلاثة – أو أربعة – أطفال إلى بائعة الجاز – في آخر الشارع – ممسكين بأيديهم زجاجات وبيضاً أو أكواز ذرة، وأغلقت زوجة أصيل شوال الملح طالبة من أحد العابرين أن ينقله من خارج الدار لداخل الدار رافضة أن تبيع الملح بالأجل متعللة بأن العتمة قادمة، ودار علي حافظ حول بيت عبد المعطي دورتين رانيا للمدخل في تثعلب متحاشياً أن يراه الآخرون فيكدرون عليه رغبته؛ وأغلق الشيخ موسى مصحفه ومسح بكفه على وجه ابن عدوي الراقد تحت الحرام الصوف مستنزلاً له الشفاء من السماء ومتسولاً له البركة من الملائكة وجذبت أم محمد عقدة حطب من خلف البيت ووضعتها أمام الكانون تمهيداً لتقمير العيش إيذاناً بالعشاء ووقفت صبية على عتبة بيت الشيخ محمود علي شناوي طالبة قطعة خميرة يضيفونها على العجين واستمر قصّاص شعر الحمير منهمكاً في عمله وسط الميدان، ونادى الشيخ إِبراهيم على الشيخ غزلي طالباً منه النزول للذهاب معاً إلى مجلس صلح سيقام بحري البلد ووضع ضبع أبو سامي فص الأفيون أسفل لسانه وهرع إلى المقهى ليحتسي فنجان بن سادة وظل صلاح إبراهيم واقفاً أمام منزله (الذي باعه لمحمد عبد المنعم ويقيم فيه بالإيجار) مرتدياً جلبابه المكوي النظيف مستمتعاً باحترام العابرين له، ووقفت بديعة أم صابر باكية منتحبة بين يدي الشيخ غالب شاكية ابنها الوحيد (ذاك الذي يدخل إلى زوجته من باب آخربعيداً عن طريق أمه وفي جيبه الحلاوة والطعمية) وتحرك عبد اللاه من عتبة البيت وصعد السلم للرواق فوجد امرأته جالسة على الأرض عارية الساقين تغربل ذرة رفيعة فبدأ يحتك بها وعيناه تبرقان، ووقفت شفيقة على السطح لتنشر الملابس دون اهتمام بإقبال الليل وجلس صالح ياسين وأحمد عبد العزيز على الدكة ينهشان في عرض إحدى الأسر ويرتشفان الشاي. ومر الخواجة يني عائداً من الطاحون مضمخاً باللون الأبيض وقال للجالسين في الشوارع : السلام عليكم، وشال محمد عبد التواب أحد صغاره فوق رقبته وخرج به من البيت متوجهاً للدكان ليشتري للطفل حلاوة.
ازداد اختناق الشمس فاسود بطن الغمامتين. ظل الثعلب في المجرى مستأنساً الأمن متدحلباً كي يقفز على الضفدع المشرئبة رأسه فوق صفحة الماء، أغلق الذئب العين المفتوحة وفتح العين المغلقة، حلق غراب ولف في الجو ناعباً، رفع (الحاج) وجه طفله بكف يده ليريه الغراب؛ كركع الطفل ضاحكاً، مست قدم النمس
أرضاً مروية فخشى الوحل وتراجع، قلد (الحاج) صوت الغراب ليزيد من إمتاع وحيده؛ ثم رفع الولد وأوقفه أمامه على ظهر الحمارة وعضه في خده فاستمرالولد يضحك، أحست الحمارة بما يجري فوقها فأبطأت كثيراً لكن (الحاج) هشها بساقيه، والبقرة هادئة تسحب عجلها في الخلف، أدخلت عمتي نفيسة أولى صحاف السمك في الفرن وانتهرت الكلب ليبتعد فنهض وتراجع خطوتين وعاد فأقعى مرة أخرى، وألقت يامنة بحزمة برسيم للأرانب، وكّبر الشيخ حسني مفتتحاً صلاة المغرب  وحمل عبد اللاه زوجته بين أحضانه وأرقدها فوق السرير فاهتزت الفرشة، وقفزالذئب داخل القصب، وترك الثعلب رأس الضفدع وانسل وسط الساسابان، ثم غمرالدنيا السكون.
بقايا ضوء في آخر غرب الدنيا، السكون، تلاشت كل أصوات القرية، قالت عمتي نفيسة : اللهم اجعله خيراً، وارتجف الشيخ حسني وارتبك في الفاتحة فاندهش المصلون، وعوى الكلب وظل واقفاً، وانفلتت الأرانب إلى جحورها تاركة حزمة البرسيم، وانخبطت الغمامتان كلٌ في الأخرى فتساقط السواد فوق النخيل والقصب والذرة وصحاف السمك وصحون الملوخية والقلقاس وصفوف المصلين والعيش المقمر، وكاكت الفراخ منزعجة، وعوى الكلب مرة أخرى، وتراجع عبد اللاه للخلف وأنزل ملابسه فظلت زوجته متمعنة في وجهه. وترك عبد الحميد المِزين رأس صادق ونظرإلى الأفق، واهتز بدن الحاجة شفاء وأحست بوخز في عنقها، وأسقط محمد عبدالتواب طفله من فوق رقبته، وتوقف محمود عبد الجابر عن دهان مؤخرة جمله،ووضع ضيوف محمود عبد الرجال اللقمة في أفواههم وأنصتوا، وسقطت زجاجة الجازمن يد طفلة وانكسرت البيضة في يد الطفلة الثانية.سكن جسد القرية كله وانتصبت آذانها متنسمة أي صوت في آفاق السكون. وهمست أم محمد : اللهم اجعله خيراً .. استر يا رب … ودوى عيار ناري، وخبطت عمتي نفيسة على صدرها وصرخت منزعجة منتفضة : هذا العيار قاتل …!!
بعدها بثوان انداح صراخ القرية ملتاعاً :
- الحاج وطفله انضربا بالرصاص.

هناك تعليقان (2):

  1. semsem
    رحمه الله كاننى اقرا احدى روايات جارثيا ماركيز

    ردحذف
  2. بالتأكيد مستجاب كاتب كبير وله اسلوب مميز

    ردحذف