من حكايات الفارس الأصفر
ذي الأذنين الطويلتين
... ويحكى أنه في زمن الحروب الكبيرة والطويلة التي دارت في منطقتنا ظهر هذا الفارس فجأة، تلبس أو لبس زي الفارس في حفلة عامة حضرها كل رؤساء الدول العربية عدا واحدة، وقف في وسط القاعة، ركع الجميع أمامه عدا –ربما- واحدة.. (هكذا بدت الصورة للعامة الجالسين أمام شاشة التلفاز، لكن المتأمل في حقيقة الجلسة كان سيلاحظ أن فارسنا ذا الأذنين الطويلتين هو الآخر كان راكعا بدوره لشبح يجلس في الخلفية).. ردد الجميع خلفه قسمه الذي كتبه له ولهم – خصوصا- الشبح الجالس خلفه، الراكب فوقه، المحيط بهم من كل جانب.. وبدأت طقوس الإغارة..
عاد به الزمن إلى الماضى "المجيد"، حيث كان مازال يحاول أن يتعلم كيف يقطع طريق المسافرين بالجمال، ينهب منهم الماعز والخيول، يقتل الرجال ويسبي النساء والأطفال، ويعود في نهاية المساء سعيدا يمتطي النساء والأطفال والعبيد .. زمن يتذكره كلما دخل قصره ولمح صورة الشبح الخفية الظاهرة، المحتلة جنبات القصر وعقول الحرس والخدم المحيطين به.. لا ينسى أبدا فضله فهو من علمه أن سرقة الماعز والخيول قد تشبع لكنها لا تغني.. وأن في العالم ما يمكن أن يركب غير النساء والأطفال والعبيد، هو من أخذه من يده وسافر به عبر الزمن والحلم.. أركبه الطائرة للمرة الأولى، أراه ما هو أعلى وأعظم وأضخم وأمتن من الجبال.. رأى أن العالم مختلف وأن الرمال والحجارة السوداء الصماء ليست نهاية التاريخ ولا هي الحدود القصوى للعالم، فخلف هذه الجبال مدن تنمو مثل الزرع الأخضر تُخرج نفوسا وأرواحا حية ليست مثل هذه النفوس والأرواح التى أنتجتها وتنتجها الصحراء منذ وجدت.. منذ زرعت فيها أول حبة رمل لتقتل أي نبتة خضراء ولو كانت محض فكرة، هو لا ينسى فضله أبدا، لذلك يتقبل ويقبل منه ما لا يقبله أو يتحمله من الآخرين...
شبحه بدوره لا يغادره، يتابعه أينما سار، يضع يده ورأسه في مخيلته - لأنه كان يدرك أن الصحراء العقيم لا يمكن أن تخلق الخيال والأبداع- وخلفيته ليوضح له ويرسم له ما لا يستطيع أن يراه..
هو يجلس الآن فوق سريره المغطى بالحرير في قصره المنيف – الذى بناه له شبحه بحجارة من ذهب وفضة أتى بها من بلاد بعيدة يعمل بها الناس ليل نهار لعلهم يذقون الطعام - يشاهد عبر شاشات خلقها له شبحه ما يفعله في الآخرين بطيوره الأبابيل.. لم يعد الآن بحاجة إلى مصاحبة الخيول والجمال كما كان يفعل في الماضى "المجيد" ليرى فعل يديه، ليروي عطشه من الدماء المسالة، ليشبع عينيه وفؤاده من عذاب الضحية وصراخها وهي تُقطّع وتُمزّق من خلاف، أراحه شبحه من هذا الماضي "المجيد" المرهق.. السقيم.. فعبر شاشاته ها هي الدماء تغطي بلاط قصره، تسيل على سريره، تلون ثيابه وحريره بالأحمر القاني، لونه المفضل من بين كل الألون، ها هي أصوات الأنين والآلام تتخبط في جنبات القصر.. يطربه الصوت.. يسعده.. يشرح صدره فيردد.. "إنا شرحنا لك صدرك " ويُصدّق بآمين.. يُنير حياته لون الدم المسال وآلام الأطفال والنساء المذبوحين.. فقط لو كانت لشاشته القدرة على سبيهم ونقلهم إلى سريره حيث ماضيه العتيد في الفتح والركوب.. وعده شبحه أنه، في مستقبله القريب، قد يوفر له هذه الخدمة، لكنه الآن وفي محاولة منه لسد حاجات فارسنا الملحة، يكتفي بأن يرسل له مجندات شقراوات يجاهدن في قصره، ويعدن إلى بلادهن حاملات رائحة الزيت وخزائن المال وذكرى مؤلمة، لذلك الذي لا يشبع ولا يرتوي حتى تسيل الدماء...
هو الآن يشاهد أُمّا تجري خلف صغير يظن أن ما ألقته طائراته أو طائرات شبحه لعبة لطفل.. يحملها بيديه.. امه تستصرخه..
- القها..
يسعده (هو المراقب عبر الشاشات) ما يحدث.. يعشق في حروبه –التي لم يخضها- المفاجآت.. اللقطات غير المعدة من قبل.. هذه لحظة كان جدير بالكاميرا أن تسجلها ليحتفظ بها على حائط قصره مع باقى تذكاراته: رأس مقطوع لرجل خرج على حكمه ذات مساء، كبد لمقاتل نسي أن الزعامة في هذا البيت فأُخْرجت كبده ولم تعد بعد للجسد.. وغيرها.. الانفجار والدماء المتناثرة على وجه الأم والتي رمت بها –الأيام- مسافة بعيدة قبل أن تفيق من غيبوبتها لتبكي صغيرها تعيد إليه تاريخه المجيد دفعة واحدة.. ذكريات الحائط/ فخر العائلة.. صورة الجد التي تنخر الرأس – المقطوعة بعد منع الماء- بالسيف.. والجد الذي سلخ الشاة وهدم البيت وأباح المدينة.. والجدة وهي تلوك الكبد بعد استخراجه بخنجر الغل.. يبعده تاريخه " المجيد" عن شاشاته حيث حاضره – والدماء المسالة- الذي يسجل خلاله تذكارات سوف يعلقها عما قريب هو وأبناؤه وأحفاده من بعده على حوائط قصورهم.. يحلم أن تكون هذه فقط مجرد بدايات لتاريخ جديد، أمجاد جديدة يتغنى بها شعراء يعرف كيف يستخرج من أحشائهم قصائد المجد والفخر.. يغمض عينيه على حلمه ويتركه ينمو.. ويعود من حلمه – فجأة- على صورة شبحه وصوت طائراته التي تعبر الآن فوق القصر في طريقها إلى حيث تقف الأم الذاهلة منتظرة هي الآخرى من طائراته دورها في "لعبة للأمهات".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق