جار النبى الحلو

 

الكاتب الكبير

جار النبى الحلو 


الموت والعصافير 

كنت أعيش مع أبى فى حجرة فوق السطح، كنا وحيدين، أرعاه ويرعانى، نأكل معا وننام معا، وحين نستلقى كنت أقرأ له فى كتب السيرة وعنترة والأغانى، كان يحب الكتب وكنت أحب الكتابة. فى أصباح الصيف نخرج على السطح أمام الحجرة بعد الفجر مباشرة نظل نتحدث ونشرب الشاى حتى نستحم بالشمس الهادئة التى كنت أتأملها فى فرح وكان أبى الكفيف يحسها بفرح أيضا. 

كان يضع يده على رأسى ويحدثنى عن زمن قديم كان الناس يأكلون فيه اللحم والسمن والبيض بلا حساب. وكان يحدثنى عن جنيات النهر وأنواع الأشجار ويعلمنى القراءة والهجاء.

وعندما أنام بجواره كنت أتمنى أن يأخذنى فى حضنه كطفل، وأدفن رأسى فى صدره واستمع لأنفاسه، كان يربت على ظهرى لو قلت آه.. وعندما أعود من عملى أجده قد اعد الطعام وفرش المنضدة بورق الجرائد.

كنا نعيش معا فى حجرة واحدة فوق السطح.. سقفها من عروق خشب ضخمة، ما بين هذه العروق حطت العصافير وعششت وباضت وفقست، كلما هممت بطردها يتشاجر معى أبى، وعرفت بعد ذلك أن العصافير تؤنس وحدته. ولما كنت أدخل أحيانا عليه فجأة أراه رافعا رأسه متصنتا لصوت العصافير فى سعادة.

ولما مات فى مساء ليل كريه قاس وبارد، بكيته بشدة، خبطت الحائط، بكيت عليه وعلى نفسى، لم ار شيئا سوى وجهه الأسمر وشعره الأبيض، كان نائما فى هدوء واستسلام ويكاد أن يبتسم . اضأت المصباح وسهرت بجواره طول الليل فى الحجرة التى فوق السطوح.

كنت تأخذنى وتسافر بى بعيدا، وتلف بى الدنيا فأرى الإسكندرية والهند والجان وأشجار الكافور، وكنت تحفظنى الشهور القبطية والعربية ومواعيد الزرع والحصد والمواويل القديمة. وفى كل عيد تشترى لى قميصا وبنطلونا وحذاء يلمع. 

كنت أحدثك عن الشوارع والناس وعن نفسى وكنت لا أحكى لك ما يضايقك، ولم نختلف سوى فى حكاية العصافير هذه.. وحكاية الكلاب.. فأبى يكره الكلاب ولا يخاف منها وأنا أحب الكلاب وأخافها.

كنت أجلس بجواره فيقول لى وهو يبتسم:

- احب العصافير والناس.. كن طيبا وحنونا

فأبكى على صدره

- وماذا تريد يا أبى ؟

لم يطلب منى أنا الموظف الصغير أن اشترى له الجلابيب ولا أكل معين. كان لا يطلب ولا يريد شيئا. ويهمس:

- صحتك

فى أيام الشتاء كنا نجلس على السرير ويسألنى:

- ما أخبار المطر؟

أقول له :

- تمطر الآن بشدة

ومن خلال الزجاج أحكى له عن الشارع والطين والطيور المبتلة والدواجن التى ترتعش فوق الأسطح. وطلاء الجير الذى يتساقط من على واجهات الدور، وعن الرجال وهم يغوصون فى الوحل لنشل الماء. ثم انهض من جوار النافذة الزجاجية وأعطى لوابور الجاز نفسا لتقوى ناره ونستخلص دفئا بلا دخان. وكانت حجرتنا الوحيدة فوق السطح تدفأ بسرعة فنجلس واقرأ له فى تذكرة داود وطهارة القلوب والجبرتى. ويظل هو مبتسما، ثم يمدد رجليه عن أخرهما. لم يكن يخلع الجورب أبدا حتى أثناء النوم.

ولما مات فى مساء ليل كريه. جلست بجواره، لقد مت معك يا أبى.. وبكيت، بقيت أفكر فى الصبح القادم الذى لن نخرج فيه معا للسطح. ماذا سأفعل؟ ااخرج تصريح الدفن أولا؟ أم أذهب إلى عماتى وأعمامى الذين لا أعرف سوى اسمائهم؟ أم أخرج على السطح وأبكى فيلتف الناس حولى؟. 

وحين بان الخيط الأبيض من الخيط الأسود نهضت، فككت اللثام من حول ذقنه ورأسه. فبدا وجهه أكثر نضارة، ولم تكف الدموع، مشت يدى على شعر رأسه الناعم، وبين الحين والآخر أخذت أقبل جبينه البارد. وبدأ النهار يدخل من النافذة الزجاجية، وقفز عصفور فى زقزقة وسعادة، فانتبهت للصور الملصقة على حائط الحجرة: حصان بنى يطير فى الهواء، طفلة سمراء نوبية تبتسم.. منظر لطبيعة صامتة. تأملت وجه أبى، فكرت مرة ثانية ماذا سأفعل؟

الكفن.. قفز إلى ذهنى فجأة الكفن، كيف نسيت أهم الأشياء؟!.

طارت العصافير.. حلقت وزقزقت فقمت وفتحت لها النافذة، كنت أريد أن أوقظ أبى وأعطيه الشاى الساخن وأشعل له سيجارة، دخل الهواء وطارت العصافير، كان الهواء نقيا وباردا. فلبست معطفى وشددته إلىّ، وعدلت نظارتى على عينى، وتمتمت مرة أخرى: الكفن 

ممدد فى هدوء.. هدوء.. تمنيت لو نمت فى حضنه، ودسست رأسى فى صدره ليحكى لى عن جدتى وأمى واناس لم أعرفهم.

ذات ليلة صيفية جلست بجواره على السرير.. وقلت فرحا:

- اتعرف يا أبى .. سأتزوج بنتا بيضاء نحيفة.. ثم تنجب لى بنتا جميلة سمراء اللون مثلى.. وتجيئ إليك ابنتى وتقول أزيك يا جدو.. ازيك يا جدو.. وتنط على حجرك وتمسك فى رقبتك وتلاعبها.. وتقبلك .. وتخدمك.

فدمعت عيناه اللتان تحملقان فى البعيد وقال :

- يا ليت.

وبكى

ثم قال: 

- أريد أن تبكى علىّ ابنتك وتمشى وراء نعشى، وتتذكرنى.

ثم قال :

- اتعرف يا ولدى.. اعطف على بكفن طيب.

الكفن!!.

والصبح يقتحمنا، وأبى ممدد فى هدوء.

لا أنا ولا أبى نملك شيئا، ها نحن بلا شئ سوى الحكايات والكتب والعصافير والحجرة التى فوق السطح.

لمن سأذهب، ولمن أمد يدى؟ سأخذ اجازة عارضة اليوم، ثم أذهب لاشترى الكفن، كيف؟  تحسست معطفى، ففتحت الباب على الفور ونزلت أعدو على درجات السلم.

بعد أن تركت الشارع ترددت هل أغلقت باب الحجرة ورائى أم لا؟ 

ولكن لن أرجع الآن. وجريت.. جريت إلى بائع الروبابكيا.. وقفت ألهث أمامه، دكان صغير به ملابس قديمة وتلفزيون وفيديو وعطور وأحذية. يبيع القديم والجديد ويشترى ويرهن، كنت ألهث، خلعت معطفى وساعتى.. ساومنى كثيرا وكان يشرب الشيشة ويمضغ اللادن ويستمع لمطرب سوقى فى مسجل ضخم بسماعات عديدة، واشترى المعطف والساعة.

وحين دخلت عند تاجر الأقمشة طلبت أحسن قماش كفن، واخذته وجريت، وقاولنى المغسل، وموظف الصحة اخذ منى سيجارة، وكان ثمن المعطف والساعة قد نفذ.

ورجعت جريا مشغولا على أبى، الذى نسيت هل اغلقت عليه الباب أم لا؟ صعدت على درجات السلم فى فزع، وفى الدور الثالث كان السطح، ووجدت الباب مفتوحا.. يا الله.. ودخلت فإذا أبى ممدد فى هدوء، والطيور تملأ الحجرة. دجاج ينقر الأرض ويرف بأجنحته، وديوك حمراء وبيضاء على الكراسى، وديك تحت رجلى أبى يصيح بصوت عال، وديوك رومية تكركر والبط نزل تحت السرير يتبعه صغاره، وعصافير لونها أخضر وأصفر تتقافز فى الأركان وتزقزق، تحط وترفرف فوق أبى، كل الطيور تتقافز ، تضرب اجنحتها الهواء وتغنى أغنية واحدة وأبى هادئ تماما يكاد أن يبتسم!.

جففت عرقى وأخرجت الطيور، وجلست على الكرسى، مات أبى ليلة أمس، نهضت إليه وخلعت الجورب عن رجليه، ثم بكيت بشدة، لو كان لى جد أو جدة لوقفا بجوارى الآن. ولكننى كنت وحدى فى الحجرة التى فوق السطح.

عرف الجيران بموت أبى عندما جاء الرجل المغسل، وعندما وجدوا النعش، وشموا رائحة الشيح، فساعدتنى بنت بيضاء اللون طيبة القلب فى احضار الماء من الدور الأول، وكانت سيدة نحيفة سمراء تبكى بتشنج، والتف الجيران حولى يسألوننى إن كنت احتاج لشئ وعرضوا على نقودا، لكننى شكرتهم جميعا وشعرت بأن الجو حار وبأننى سأختنق أو أموت.

وقفت على الغسل ومعى جارنا المدرس نقرأ: قل هو الله أحد وأخذوا فى غسل أبى. فى هدوء. وجهه أكثر بياضا عن ما أعرفه، يكاد أن يبتسم، ها انت ذا خال من الأمرض والوهن.. بينى وبينك المسافات، واللقاء يوم اللقاء يقلبونه على جنبه الأيمن ثم الأيسر، يشده الرجل من ذراعه فلا يقاوم .. هاقد استراحت شقاوتك وكف تعبك ووقف نبض قلبك الذى نبض حياة طويلة بالحب لكل الأشياء، وتوقف لسانك عن حكاياتك البديعة. 

احضروا الكفن، طلبك يا أبى .. لم أمد يدى لأحد.. بعت ما املك حتى .. غطوا جسده كله.. ايه يا أبى .. ألن أراك بعد الآن .. المسافات بينى وبينك .. والذكريات والطفولة والشباب والشوارع والبحار وأشجار "البنسيانا" ثم على غفلة منى غطوا وجهه.. اختفى وجه أبى ..آه .. وسقطت على الأرض فى هذه الحجرة التى فوق السطح. 

عندما عدت من المقبرة كنت متهالكا.. لا أصدق أننى تركته وحده ولن أعود إليه أو يعود إلىّ.. إلى اللقاء يوما ما يا أبى. 

الشمس ضايقت نظرى، صعدت درجات السلم بإعياء وكنت اسمع من كل الشقق صوت القرآن عاليا.. وكنت متعبا.

ولما فتحت الباب لادخل الحجرة وجدت البنت البيضاء فى انتظارى، وأمامها صينية صفراء اللون كبيرة ومدورة وعليها جبن وزيتون وطماطم وأرغفة، نظرت لوجهها الطيب وجلست، قالت لابد أن تأكل، فأكلت واللقيمات تنزلق بصعوبة، صنعت لى شايا على وابور السبرتو، ثم قمنا أنا وهى لنرتب الحجرة. أخذتْ هى تتأمل الصور التى على الحائط ثم وأنا أمد يدى فيما بين الحائط والسرير وجدت صرة صغيرة من القماش، لم أكن قد رأيتها من قبل، جذبتها.. شممتها.. رائحة قديمة مختلطة برائحة أبى، فتحت الصرة الصغيرة أمامى على السرير.. فوجدت ختم أبى، وحصان الشطرنج.. واطار نظارة وصورة لى مع أبى يوم كنت صغيرا.

وكانت العصافير تزقزق بشدة فى هذه الحجرة التى فوق السطح. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق