الحداد والحلم
زمان .. زمان قوى .. كان فيه حداد .. عنده بنت وولد .. البنت كانت دكتورة والولد كان مهندس ... استنوا .. عارف .. هتقولوا لى معقول حداد يخلف دكتورة ومهندس ؟!! .. معاكم حق .. هو كان بيحلم ، وكان بينادى حلمه دكتورة ومهندس .. فى الحقيقة المهن هنا – فى حكايتنا – مش مهمة قوى ، لأنهم فى النهاية لما كان الليل بيدخل وينزل بدل نور الشمس ضلمة القلوب وبردها .. كان بينكمش الحداد الطيب على نفسه ويضم لصدره ابنه وبنته – إللى هما أصلا ما أتولدوش إلا فى خياله – ويبدأ يحكى تاريخه / تاريخ العيلة للولد المهندس والبنت الدكتورة زى ما أبوه كان بيضمه فى الضلمة ويشعل ليله دفى بحكاياته عن زمان .. زمان قبل أول بيت ما يبقى بيت وأول سيف ما يبقى سيف .. الحكايات إللى كانت بتجننه وتفتح فى راسه شباك للعلم والمعرفة وتحيره .. لإنه ماكنش بيقدر يوصل بخياله لصورة دنيا من غير بيت ، من غير سيف ، لكن جده كان دايما يأكد له – زى ما حدادنا بيعمل أو بيحاول يعمل مع ابنه المهندس وبنته الدكتورة – إن الدنيا ده مش بس كانت من غير بيت ومن غير سيف ، لكن كمان من غير نار – إللى ماكنش جدكم الأول يقدر يفتح باب الحدادة من غيرها – علشان كدا اتسحب فى يوم بالليل ودخل عالم ماكنش لازم يدخله حتى بخياله ومد إيده وسرق – آه والله العظيم كل تاريخ عيلتنا العظيم ده بدأ بالسرقة – شعلة نار كان مخبيها غنى / قادر فى درجه .. يومها نزل جدكم وزرعها فى الأرض فنبتت كل حقول الأرض نار ودفيت وبدأ جدكم صنعته ..
-.... ؟
-سألت نفس السؤال لأبويا... ربنا بيغفر ويسامح ، مش كل حاجة نسمعها نصدقها وتبقى حقيقة ..
علشان كدا جدكم بعد ما زرع الأرض بالنار والأرض دفيت .. حس الغنى/ القادر بطل حكايتنا إن هو كمان ممكن يستفيد من التغيير ، فجاب جدكم وطلب منه إنه يصنع له كرسى بحجم عظمته .. ولأن جدكم عارف إن العظمة مش ممكن تتقاس صنع الكرسى إللى مش ممكن يتشاف ، فلما قعد عليه الغنى / القادر بتاع حكايتنا منحه الكرسى الرضا والسعادة والبهاء فقرر منح جدكم شرف خدمته ، سمح له بفتح دكانته فى أرضه فصار جدكم أول حداد فى أول أرض ..
تضحك الدكتورة ، يضحك الباشمهندس لأن جدهم الأول مش بس قدر يغير وجه الدنيا وشكلها لكن كمان قدر يغير صورة ونفسية وقناعات غنى / قادر .. ويضحك الحداد ويقول لهم .
-أمال لما تعرفوا إللى عمله جدكم الثانى ...
يومها كانت الدنيا بقت غير الدنيا .. ادهنت بيوت .. اتزرعت سيوف .. صار جدكم هو كمان غنى / قادر .. وبقى يخاف منه كل غنى / قادر .. وكانت حرب كبيرة .. قرر فيها غنى / قادر إنه يطارد جدكم فى كل الدنيا ، ينهى وجوده على أى أرض .. يهدم كل شغله ، يطفى ناره إللى زرعها بدراعه .. ففتح عليه هويس النهر وكان طوفان عظيم .. عظيم .. شال بيوت بحالها وناس بحالهم .. هد دنيا وطفى نار .. لكن جدكم .. ينتبه الباشمهندس .. تنتبه الدكتورة .. والحزن واكل قلبهم .. جدكم دق مساميره فى ألواحه ربط حديده بخشبه وعمل سفينة ...
" عارفين يعنى إيه سفينة ؟" .. طبعا عارفين يعنى إيه سفينة ، شايفين ألف سفينة وسفينة ..
كانت أول سفينة تلمس المية .. تعوم وماتغرقش وجمع أدواته وعيلته /عيلتنا وجيرانه وحيواناته حتى ناره مانسهاش وحط كل دا جواها .. وساب مكانه وساب سفينته للريح .. سنين والأرض مية .. وجدكم وسفينته بيحاربوا الزمن ... لحد ما استقرت على أرض وهناك بدأ جدكم حياته من جديد .. عالمه من جديد .. ورشته ، بيته ، سيفه .. وزرع ناره .. تضحك الدكتورة ، يضحك الباشمهندس ويحسوا بالفخر لأنهم من نسل جد قدر يحارب وينتصر ، حافظ على ناره علشان توصل لولاده ويستمر الدكان باب الرزق .. ينشرح قلب حدادنا ويمد حكاياته عن جدوده وجدودهم .
-..... ؟
-لا طبعا .. فيه إللى مات على صنعته ، عمل صليبه بنفسه ، وفيه إللى بلعه البحر وخرج فكرة على لسان الناس وفيه إللى فتح طاقة نور فى قلب صخرة منها خرج الأمل بإيدين ورجلين ، ولما مات أمله مقتول فنيت دنيته وانهزم .. فيه ألف جد وجد .. وألف حكاية وحكاية .. لكن دايما فيه غنى / قادر ودايما فيه ظلم كبير .. أحكى لكم عن جد من جدودكم اتعرض لأصعب امتحان ممكن يتعرض له أو يفرض على إنسان .. ليه مانعرفش .. .. كل إللى نعرفه إن الغنى/ القادر بتاعنا كان عامل حفلة كبيرة .. عادى هى ده طبيعة حياة أى غنى / قادر حفلات كبيرة .. وبرضه كالعادة والطبيعى كان حاضرها كل غنى / قادر ع الأرض .. يومها وكجزء من برنامج الحفلة .. دخل جدكم من باب البيت ورمى سيفه ورمحه وترسه ، صنعته /فنه .. اتحركت المشاعر والأحاسيس تقولوش ثعابين .. انبهر كل غنى / قادر كان موجود .. واتغيرت القلوب .. " سبحانه مقلب القلوب " .. واحد منهم كان شيطان ، لعب فى راس الغنى / القادر .. صاحب البيت .. صاحب الأرض .. تراهن .. أراهن .. كان رهان صعب مش بس على جدكم لكن كمان على الغنى / القادر .. صاحب البيت .. صاحب الأرض .. إللى بيحب جدكم وعارف قيمة إللى بيعمله فى أرضه وإن من غيره ما يدومش بيت ..مايكونش سيف .. ساعتها " مثل " صاحب البيت دور الغضب على جدكم ..
-دخلت قبل ميعادك .. وسخت السجادة .. بوظت البرنامج .. عرتنى قدام ضيوفى .. امشى اطلع بره .. أنت مطرود .
طرده من أرضه بعد ما خد منه كتير من إللى جدكم كان حوشه بتعبه وعرقه .. وساعتها برضه خرج وراه الغنى / الشيطان وعرض عليه أضعاف ما يملك وأضعاف ما أتوعد بيه لو كان فضل فى الأرض ده .. بشرط يشتغل عنده .. وعرض عليه صور لورشة كانت أكبر ورشة ممكن يشوفها جدكم .. لكن جدكم رغم حبه لصنعته/ فنه وغرامه بالورش كان لسه عنده حتة اسمها الوفاء .. مش كبيرة صحيح لكنه خد جدتكم وولاده وناره وراح سكن فيها ورفض يشتغل عند حد تانى أو يقدم صنعته /فنه لحد تانى .. فقر صحيح ، جاع صحيح ، جاله كل أمراض الدنيا .. خسر ولاده واحد ورا واحد صحيح .. لكن كان دايما عارف أو حاسس إن مكان مولده ، مكان دفنه .. وإن الزمن مهما طال لازم يرجع علشان يلاقى له قبر هناك وسط قبور الجدود وورشته /ورشتهم /ورشة ولاده من بعده .. زمن ..
لحد ما فى يوم رضيت الدنيا عنه .. دخل عليه صاحب الأرض .. الغنى /القادر بتاعنا وهو بيضحك .. وقعد جدكم وسمع منه ومافهمش ، لكن عرف إنه نجح فى امتحان وإن الغنى / القادر .. صاحب البيت .. صاحب الأرض كسب من وراه كتير بالرهان .. ورجع لأرضه ودكانه وبيته .. من جديد .. مولده ومدفنه
تبص الدكتورة والباشمهندس لبعض ويستعجبوا ..
-إيه إللى يصبر بنى آدم ع الظلم ؟!! .. ليه صبر جدنا ؟!!
-الأرض يا ولادى .. الميلاد والقبر .. النار والدفى .. بكرة تكبروا .. بكرة تفهموا .
مايفهموش لكن يضمهم دفى الحكاية ويحسوا بعظمة جدهم .
-... .... ؟!!
-برضه لا طبعا .. مش دايما كل حكاياتنا سعيدة .. ومش دايما كل جدودكم كانوا بيدخلوا السعادة على وش الدنيا .. فيهم الظالم والمفترى وإللى بقى غنى / قادر ، فعمل زى أى غنى / قادر .. فيهم مثلا إللى عمل سيف أقوى من أى سيف وأطول من أى سيف كان به بيقدر يقتل من غير ما يتحرك من مكانه .. قتل ودبح وياما طفا نار ، لكن تستعجبوا بقى .. إن إللى قتله – أو دايما كان بيقتله ولسه بيقتله – قرضة ، ولما مات كان لسه فيه إللى مخبى ناره فى قلبه فزرع قلبه ودفى الأرض من تانى .
ماتزعلش الدكتورة ، مايزعلش الباشمهندس لإنهم عارفين إن كل عيلة فيها دا ودا .. وإن كل تاريخ فيه الأبيض والأسود .
لكن يلمحوا على وش أبوهم / حدادنا سحابة حزن بتعدى .. طيف لذكرى كان نفسه يخفيها ، فتغمز الدكتورة الباشمهندس وتسأل بكل شقاوة العيال .. وأنت يا أبا .. هنحطك فين وسط الصورة الكبيرة ده .. فين مكانك .. يبص الحداد باستغراب ..
"آلاف من الحكايات كان بيقولها كل يوم .. لكن تاريخ .. حاجة سمعها ، قراها ، شافها مسجلة فى صورة .. لكن عمره ما حكى عن نفسه علشان كدا يبص للى عايش فيه .. ورشة بسيطة خالص ، فقيرة خالص ، هى سكنه ومحل عمله .. ويفكر مافيش زوجة ، مافيش ولد أو بنت إلا فى الخيال .. ويحاول يبعد الحزن عن عينيه ..
هاقولك إيه يا باشمهندس .. هاقولك إيه يا دكتورة .. رغم كل إللى عمله جدودكم دول ، لكن أنا كل إللى وصل لى شوية ورق متسجل عليهم الحكايات .. وورشة فى أرض غنى / ظالم .. مايعرفش قيمة أرضه ، مايعرفش قيمة صنعتى / فنى ولا قيمتى .. كان كل همه إن أبوكم ما يحلمش ببكرة وإن حلم يبقى بكرة بتاعه حلم الغنى / الظالم .. علشان كدا كانت حياة سودا .. الورشة اتباعت كل أدواتها ، المكن وقف ، الأرض اصفرت ، النار بدأت تنطفى ، والناس نسيت تاريخ جدودكم أو حاولت تنسى وبدأت تحط مكانه تاريخ جديد للغنى /الظالم وعيلته .
-وسكت يا أبا .. ورضيت نارك تنطفى وأرضك تصفر .. نسيت دكانك ، باب رزق عيالك من بعدك علشان ولاد الغنى / الظالم من بعده ..
-مين قال ؟!!!!... اقروا عنى فى الصحف .. افتحوا الكتب .. شوفوا .. شوفوا الصور واسمعوا الحكايات والرصاص بينضرب عليّا لكن راسى لم طاطت ، والعربيات بتهرس فىّ لكن جسدى لم خاف أو هرب .. أبوكم يا ولاد زى جدودكم لحظة عظيمة معدية فى صفحة التاريخ .. ويسكت لأن نهاره لسه مطلعش ، ويشد بطانيته على نفسه ويضم خياله ، حلمه الباشمهندس ، حلمه الدكتورة لصدره ويقول لهم بكرة نبدأ يومنا ونفتح ورشتنا .. وياخده الدفى للحلم إللى جى ...
عارفين مش الدكتورة والباشمهندس كانوا مش قادرين يتصوروا الدنيا من غير سيف ، من غير بيت ، لكن ليه مش عارف واضح قوى فى خيالهم بكرة إللى جى ، النهار إللى هيطلع لما الورشة تتفتح ويبدأ أبوهم فى نفخ ناره .